في جمالية التوبة

يقرأ المرء منا كتبا كثيرة، لكن قليلة هي تلك التي تترك أثرا في النفس وتجعلك تعيد النظر في كثير من المسلمات لديك، هذا ما قد يفعله بك كتاب “جمالية الدين” للعالم الجميل الراحل “فريد الأنصاري”، يأخذك الكتاب في سفر في معاني جديدة ربما لم تنتبه لها قبلا، فهو يحدثك عن جمالية الله وجمالية العبودية وجمالية المحبة وجمالية العمر ويأخذك من نفسك بشكل غريب وهو يكشف لك مواطن الجمال في أشياء لم تعتقد أبدا أنها قد تحمل بعض الجمال بل في تلك الأشياء التي تجعلنا نجزم كلنا أنها من أكثر ما قد نعايشه إيلاما، ورغم هذا فالأنصاري يجعلك تنظر لها من وجهة مغايرة تماما، فتكتشف الجمالية في الإيمان بالغيب الذي طالما نظرت له على أنه شيء يؤرقك ويجعلك تطرح أسئلة لا إجابة لها وهو يعرفك بشكل لا تصدقه عن مواطن الجمال في الموت ويزيح اللحاف عن جمالية الحياة الآخرة التي اعتقدت دوما أنها شيء مرعب تجعلك مترددا بشأنها، يخبرنا الأنصاري في هذا الكتاب أيضا عن منازل متعددة من بينها منزلة الخوف والرجاء ويجعلك تكتشف أن هذه المنزلة لوحدها كفيلة أن تزرع في قلبك الأمل وتجعله يشرق تماما كاشراقات الكتاب المتعددة والتي قد يكون أهمها أنها تدفعك لأن ترى الإسلام مليئا بالحياة والجمال والإحسان عكس التمثل الذي رسخ في وعيك أو لاوعيك وبشكل غير متوقع تدفعك أيضا لمراجعة تصوراتك بشأن هذا الدين الذي اعتقدت زمنا أنه يدعو إلى اعتزال الحياة ومباهجها.

مقالات مرتبطة

ووسط كل هذا يحدثنا فريد زمانه عن منزلة خاصة لا يذوق حلاوتها إلا القليل، إنها التوبة، يأخذنا بين ثناياها ويجعلنا نكتشف جماليتها ونتذوق حلاوتها كما لو أننا لم نعرفها قبلا، التوبة التي تجعل من الإسلام الدين الذي يتفهم إنسانيتك أكثر من أي دين آخر، فهو يتقبل بشريتك ولا يطلب منك أن تكون مخلوقا ملائكيا لا يخطىء أو لا يزل، إنه يمنحك الحق في الخطأ لأنك إنسان جبلت على النسيان والزلل ويمنحك الفرصة دائما وبشكل غير محدود لتصلح خطأك مهما بدا لك جسيما وغير قابل للمغفرة.

يكاد يكون الدين الوحيد الذي يخبرك أن الله يفتح لك أبوابا تحسبها موصدة، وأن عدد هذه الأبواب قد يكون غير محدود وغير خاضع لسقف بل تحكمه قاعدة واحدة أن تقبل عليه كل مرة بقلب سليم، أن تطرق الباب مرارا وتكرارا دون أن يصيبك اليأس والملل لأن الله لا يمل أبدا من استقبالك كل مرة بعفو ومغفرة.

إن أكثر شيء معجز في منزلة التوبة أنها تجعل الإنسان يؤمن أنه يمكن أن يصبح شخصا آخر إذا ما أراد ذلك، فهذه المنزلة هي ما جعلت من عمر بن الخطاب الصاحب والرفيق لخير البرية والفاروق الذي لا يظلم عنده أحد بعد أن كان عمر الذي يبطش بمن يخالفه، وهذه المنزلة هي ما جعلت من رابعة رابعة التي مازالت أشعارها في محبة الله حاضرة إلى يومنا هذا، إنها ما جعلت من مالك بن دينار بعد أن كان السكير الغافل رجلا صالحا مربيا قانتا لله، إن هذه المنزلة هي ما يجعل الملايين تتوجه يوميا بالدعاء لرب العزة أن يتقبل عودتها وأوبتها وهو الغني عنهم وهم الفقراء إليه، إنها ما يجعلنا نشهد تحولات كبيرة في أشخاص كثر كنا نحسب أنهم كانوا يحملون في دواخلهم شخصا آخر غير الذي عهدناه فيهم لم يطف إلى السطح إلا عندما نفض عن نفسه غبار التيه والشرود عن طريق ربه المنير.

إن هذه التوبة هي ما يجعلك تؤمن أن البدايات الجديدة ممكنة دائما وأنها تجب ما قبلها وتنقلب بنعمة من الله كأنك ولدت لتوك بلا أدران او ذنوب تثقل كاهلك.

1xbet casino siteleri bahis siteleri