عَدْجُو..

اسْتوقفَنِي اسْمُهَا الغريب على الأقلّ بالنّسبة لي وأنا أتلعثمُ قراءتهُ لبرهةٍ مِنَ الزّمن، أضغطُ على مخارج الألفاظ وأنا أنطقُه بِبطءٍ وقُوةٍ شديدين. نبّهتْني ضحكات صديقاتها وتصحيحهن لِفلتة لساني وقبلَ أن أسألهن عن سببِ غيابها المُتكرر في الفترة الأخيرة، أخبرتني إحداهن أنها تزوجتْ ولن تعودَ أبداً.
عَدْجُو، تلك السّمراء البشوش التي لم تُكمل بَعْد السّادسة عشْرة ربيعاً، ذاتَ العينين المُتّقدتين بالشّغفِ والحياة . مازِلتُ أتذكرُ بسماتها ونظراتها المُتوثّبة التي تحملُ ألف سؤال وسؤال، مازلتُ أتذكّرُ عنادها وجرأتها وشغبها أحياناً، وهدوئها وسكونها أحايين أُخرى. مازال صوتها الحادَّ كالسّيف والقوي قوّة اسمها -الذي يُنطق بالضّغط على حرفَي الدّال والجيم وقَلْقلَتِهما- يدقُّ في أُذنايَ كناقوسِ كَنيسَة ، وهي تُفصحُ ذات صباحٍ من صباحات أيلولْ بانجليزيةٍ غير مُرَتّبة لكنْ بِنبرةٍ واثقة، عن حُلمها الدّفين أنْ تصيرَ أستاذة فَلْسَفَة.
كانتْ عَدْجُو خِلافاً لِكثيراتٍ منْ فتياتِ الدُّوّار؛ الاّئِي غَادَرْنْ المَدرسة باكراً، يَمْشينَ ملفوفات الأجْساد و نِصْفِ الوَجه فِي مَلاحفهن السَّوداءْ وَيحنين رؤؤسهن قسراً لا حَيَاء، تَرْتَدِي بِنْطَالَ جِينْز وَحِذَاء رِيَّاضِيَّا وقُمْصَانَا بِكُلِّ ألوانِ فواكهَ الجَمالْ، وتَمضِي عند نُزولها مِنَ الحافلة التي تُقِلُّها لِمَسكنها بدوار آخر يَبعدُ بِسبعة كلمتر، وأنفُها يُلامسُ السَّحاب؛ مَرْفُوعَة الرّأس، مُنتصِبَة القِوَام، وَاسعة الأحلام كابتسامتها التي لا تفارقُ ثَغرها الجميل الذي يُشبهُ حَبّة كرزٍ مُمرغة في صَحْنٍ منَ الشُّوكولاتة البِلْجيكية ،وأمّا شعرها الأسود الفاحِم فَمُتماوج مُتمرد كروحها، تطيرُ خصلاته المُنسلّة تحت الغطاء، في الهواء كما طارت معها اليوم كلّ آمَالها.
كنت أرَى فيها مشروع امرأةٍ فيلسوفة لِمَا تَنفردُ به من ذكاءٍ وفِطنة وثقةٍ كَبيرةٍ في نفسِهَا وقُدرةٍ على النّقد والحوَار وسُرعة البَديهَة، حَتّى أنني كنتُ قد تنبأت لها يوما أمام صديقاتها بأنها سَتصبُح بعدَ أعوامٍ منَ الجدّ والكدّ استاذَة فلسفة؛ تتفنّنُ في تدريسِهَا لأطفالِ الدّوّار لِتُخرجهم مِنْ ظُلمات جُدران بُيوتهم بهذه الوِهَاد المَحكومة بقيود خفية ، نحو نور الحرية والإرادة الفاعلة واستقلالية القَرار والاختيار والفِكْر والتّفْكير وغيرِهَا من المفاهيم النيّرة التي تُعلمُها لنا الفلسفة، ليُتْقِنُوا بِفِطْنتها فُنونَ مُلاعبة الوَاقع بِسِرياليته التي نَعيشُهَا.

مقالات مرتبطة


فكرت مليّا وتساءلت كثيرا عن الأسباب التي دفعت عَدْجُو لتتخلى عن أحلامها وتخيّب آمالي، كيف لها أن تغادر صفوف الدراسة وهي التلميذة المجدّة التي تملك من النباهة الكثير؟! هل تكون قد تورطت في قصة حبّ متهورة كما تفعل بعض مراهقات اليوم ؟! أم أنني منذ البدء كنت مُخطئة الظّن بإيمانها بأحلامها؟! قطعا لا، متأكدة أن عَدْجُو ليست كذلك، لابد أن يكون هنالك تفسير آخر وحده الله يعلم خباياه، أتمنى فقط أن لا يكون لأسرتها يد في حرمانها من متابعة الدراسة والدفع بها لقبول زواج قسري بسبب صعوبة المصاريف، أو بعد المؤسسة، أو تحت ذريعة تبريرات واهية كستر العرض كما وقع الأمر مع عائشة، أول صبيّة أتعرف عليها بالدّوار، كان الوقت حينها ظهر يوم من أيام الصّيف القائظ الحار، قصدتُ بيتها في البدء طالبةً كأس ماء بارد يريق حلقي الذي نشف لُعابه من حر الطريق، لتستجيب بعدها بحفاوةٍ لا تخفى على نساء الجنوب، لطلب استضافة غريبة تحمل حقيبة ظهر وبيدها قنينة ماء فارغة، قطعت بها الأقدار مسافات طوال. هي شابة في العشرين، بعينين خضراوين كغابات النّخيل، أحكم الكحل الذي دقته أيادي نسوة القرية رسم خطوطه بهما، لتشعا كبلّور من لحافها الأسود الذي غطّى شعرها وجسدها ونصف وجهها السّفلي، وبابتسامة عذبة قادتني لفناء البيت حيث استقبلتني والدتها؛ امرأةٌ خمسينية لم تأخذ منها الّسنون جمالها وبهجتها، نزعتُ حذائي وجلستُ أرضاً، جاءتْ عائشة بصينية الشاي بالنعناع ورغائف بزيت الزيتون والعسل، تجاذبنا أطراف الحديث من كل حدب وصوب، سألت عائشة إن كانت ترتاد ثانوية الدّوار، انفجرت أمها ضاحكة مُشيرةً إلى أن الصغير آدم ذي الأربع ثمرات في حقل هذه الحياة، ابنها وأنها تقطن بمنزل أبويها في انتظار أن تلتحق بزوجها بديار المهجر. تزوجت عائشة في الثالثة عشر من عمرها لأن ” مُولْ المْلِيحْ بَاعْ وْ رَاحْ ” كما ردّدت والدتها، لتصبح بعد عامين من الزواج أمّاً لطفل وهي ما تزال طفلة، غادرت مقاعد المدرسة في الصف الأوّل إعدادي قسْراً لا طوْعاً، ففي عُرف والدها والقبيلة، المدرسة للرجال، أمّا المرأة فهي منذورة لحمل أوزار إخوتها الذكور، تحمل همّ الأسرة وهي طفلة، تتحمل كل أصناف المتاعب داخل البيت وخارجه، إلى أن يتم إيجاد زوج “يسترها” وكأنها حبَّة فُولٍ وانْشَطَرتْ فأصبحت عارية دون غلاف، لتكمل ما تبقى من حياتها وهي تتهاون تحت ثقل الزّمن، تنجب أطفالا يعيشون على الأرجح نفس السيناريو في أزمنة مختلفة. استفقت من سهوي على رائحة ” تَرْوايْشْتْ ” ، طَبق عَصِيدة مِن مَهْرُوش الذّرة مَطْبوخاً بِالماء، مُرفقاً بالسمن البلدي مع العسل، تناولنا الغداء وأنا أفكر كيف نكون في القرن الواحد والعشرين وما زالت مناطق عدة من مغرب هذا العالم ومشرقه، سجينة فكر مستلهم من موروث ثقافي رجعي يكون ضحيته مجتمع بأكمله، كيف لها أن تبقى في ظل كل هذا التقدم الذي أحرزه العالم اليوم على مُستويات عدّة، مُرتبطة بمعتقدات تُحيل على العصور الغابرة، وتقاليد قبلية تعيق سيرها والتحاقها بالرّكب؟! الزمن هنا يسير ببطئ ، بعيدا عن حياة الصخب والسّرعة، أُسَر تعيش دون أن تُغير شيئا؛ أطفال يعملون بالبساتين مساء، يجلسون على مقاعد المدرسة نهارا وهم يحلمون بالهجرة للضفة الأخرى، وطفلات بعمر الزّهور، راعيات الغنم بالهضاب والسّهول، أغلبهن لا همّ لهن سوى الحلم بعريس كالذي تُصوره لهنّ المسلسلات التركية، نساء شابات وكهلات يحرثن الأرض ويحملن أكواما من الكلأ فوق ظهورهن، ورجالٌ كُثر ممن لمْ يُسعفهم الحظ لمغادرة القرية والوطن، يجلسون على أبواب البقّالات لشرب الشاي والتسامر، يتزوجون في سنّ مبكر، ليلدوا في سنّ مبكر، ثم يرحل الزوج ما أن تسنح له الفرصة لذلك باحثا عن حياة أخرى، تاركا الزوجة والأخت والأم يتحملن مسؤولية رعاية الابناء .
إنّ الذي يحز في النفس ليس كون المرأة بهذه المداشر، طفلة كانت أو شابّة أو كهلا أو عجوز، ضحية معتقدات مازالت تكرس الدونية تُجاه الأنثى التي تعتبرها أقلّ شأنا وتصفها بالنقصان والقصور، بل وصول هذه المرأة نفسها إلى قناعةٍ مفادها أنها لا تستطيع فعل شيئ لتغيير وضعها، بل إنّها تستمتع بلعب دور الضحية المَقْهورة، مُستسلمة للمكتوب، منددة بسلطوية الرجل، أبا كان أو زوجا أو أخا، الذي ترى أنه العدو اللّدود وسبب قُبُوعِها في مستنقع التّخلُّف، بينما ليس هنالك عدو للمرأة أكبر من نفسها، فسيمون دي بوفوار لم تكذب حين اعتبرت أنّ عدو المرأة الأول هو المرأة ولا أحد سواها. كيف لا تكون كذلك و الصّبية ” يَطُّو” التّي يهددها جدُّها يوما بعد يوم لتغادر المدرسة وتتزوج من قريبها غصْباً دون أن تحرك أمّها ساكنا بل وتحاول اقناعها للرضوخ لرغبة الجدّ والأب؟! كيف لها أن لا تكون كذلك و “مْباركة” ،التي كانت بالأمس تحارب من أجل نقط عالية في الرياضيات والفيزياء، وعلوم الحياة والأرض تخولها دخول كليّة الطّب، ما كان لوالدها إلا أن دفعها للتسجيل بشعبة أدبية لتدرس بالبيت وتقصد الجامعة وقت الامتحانات فقط، دون أن تقف أمّها وأختها البكر التي كانتا بدورهما ضحية زواج مبكر، في وجهه وتحاولن دعم حلمها؟! كيف لا تكون المرأة عدوّ المرأة وأمّ “سعاد” -ذات الخامسة عشر ربيعا-، تمزق كتب ابنتها وترغمها على الجلوس بالبيت والاعتناء باخوتها الأربعة الصغار وتعلم الغسيل والطبيخ بدل حضور الدّرس؟!
ستنسلخُ المرأة بهذه الوهاد من مظلوميتها وتلحق بالرّكب، يوم تتفطّن إلى أنها ليست سوى ضحية نسق ثقافي جعلها تعيش عقدة كونها امرأة فترى أن نصفها الآخر غرف من الحظ الكثير كونه رجلا في مجتمع تحكمه معتقدات واهية كان لها الدور الأكبر في صناعتها وتعزيز إيمان المجتمع بها. ستتحقق كل آماني الفتيات بهذه الوهاد يوم يقفن في وجه كل خرق سافر لحقوقهن، ويؤمنّ أنّ الحق يُأخذ ولا يُعطى، ويجعلن من الدراسة الدّرع الواقي والملاذ الأوحد، ومن بلوغ طموحهن الهدف الأسمى وقارب النّجاة. إنّي أؤمن تمام اليقين أنّ خصلات عدجو المنسلة لتطير في السماء ما هو إلا ميلاد ثورة بهذه المداشر، وأنا على يقين أنّ زواجها ماهو إلاّ مُؤامرة لعينة نُسجت عن سبق تخطيط و اصرار من طرف الأب بتواطؤ مع الأم لإقبار ثورة؛ حتماً سَتُكملُ بقية الصَّغِيرَات بالدّوار مشوار خوضها يوما.

1xbet casino siteleri bahis siteleri