تهيآت من نسج الواقع 2 (ولادة الشك)

وكجُل الناس العمليين ظن صاحبنا أنه تعلم من أخطائه، وأتقن أخيرا سير حياته، واستولى على مجريات أعماله، وتفنن في ترتيب تفاصيل يومه، و قضاء حاجياته الصغيرة قبل الكبيرة، كل ما كان عليه فعله بشكل روتيني من أعمال المنزل و المكتب أصبح يسري مسرى الدم في العروق، كل شيء يحيط به كان جاهزا منظما وفق قانون صارم، لا مكان هنا للخطأ، لا مكان للحظ، على كل حال كان يمقت الحظ ويتمنى موته، ويقول عنه خرافة الدهر.

وبينما هو كذلك يهيم في منطقه وعِلمه ويفتخر بإنجازاته بينه وبين نفسه، أتى عليه صباح من تلك الصباحات التعيسة التي لا يدور فيها شيء على خير، وكان يرتب ملابسه حسب رضاه أو سخطه على نفسه، ورضاه وسخطه يكون نتيجة إخلاله بواجباته أو ضعفه أمام شهواته، فمثلا كان يمنع نفسه من الأكل الكثير، يواظب على ترتيب غرفته وموعد استحمامه وما إلى ذلك من واجبات تبدو بسيطة لكن في نظره كان احترامها واحترام وقتها سر نجاحه، فإذا أخل بإحدى هذه الواجبات غضب على نفسه ولبس أقبح ما لديه وخرج وسط الناس إلى عمله عقابا لتقصيره.

ولأنه لم يحترم موعد رياضته في يومه الفارط قرر معاقبة نفسه، فبدأ الصباح بملابسه الرثة القديمة، ونصف وجبة فطور، خرج فوجد إطار السيارة معطلا، أصلحه فتأخر عن عمله، صادف رئيسه عند مدخل الشركة غمغم في نفسه “ليته كان هنا البارحة عندما أتيت مبكرا وخرجت متأخرا”، بطاقته البنكية لم تعمل لخلل في كلمة السر، وخط الهاتف فُصل بعد أن تأخر عن تأدية الفاتورة، ولأن النحس كان مصطلحا منبوذا لديه كالحظ، آثر عدم الاكتراث والمضي قدما في يومه.

لاحت له عبارة كان صديقه الآمل غالبا ما ينغص عليه واقعيته بها كانت تقول “يُعرف اليوم الجميل بصباحه”، فانطلاقا من هذا الصباح البائس أحس أن المصائب لا تأتي فرادى، فانشرح صدره للمزيد انشراح فارس شق طريقه بين العدو غير مبال بالخطر، وأصبح يساير الأحداث السوداء التي تحيط به مسايرة الجمل لشعاب الصحراء، حاول الحفاظ على مزاجه الباهت المعتاد، لم تكن ملامحه توحي بشيء، وجهه بارد متصلب كيفما كانت حاله، كان قد اشتغل كثيرا على مبدأ عدم ترك الأحداث أو الأشخاص يؤثرون على نفسيته وقراراته، ثم رن هاتفه وكان المتصل أباه، وهو عادة لا يتصل إلا لأمر جلل بالغ الفرح أو بالغ الحزن.

مقالات مرتبطة

جدتك ماتت، كلمتان لم تسجل ذاكرته غيرهما خلال المكالمة، لم يكن القدر أو الحظ ذا أهمية كبيرة لديه لكن الموت كان يخلط أوراقه ولا يجد له تفسيرا في قرارة نفسه، كان الموت صدمة، ليس على مشاعره التي كان ينكرها ولا يبديها، بل على عقله ومنطقه الذي ظل يبني فيه لسنوات، أما موت جدته فقد حرك أخيرا مشاعره وعاد به إلى أيام ما كان يستوعبها، لم يفهم يوما منطق جدته التي جمعت بين ذكاء منقطع النظير وعاطفة كبيرة لا يشوبها منطق، تراها في قمة دهائها مع أصحاب العقول وقمة عطفها وكرمها مع الضعفاء أصحاب القلوب، كان قد قضى لديها فترة نقاهة لا بأس بها والكثير من العطل في صغره.

انتهى إلى أيام الطفولة الجميلة حيث كان يكتفي بالملاحظة لتكوين شخصيته، شده دهاء جدته في أحد الأيام عندما زارهم أقارب وأخذ ابنهم إحدى ألعابه دون علمه، فما كان من جدته إلا أن أعادت لهم الزيارة ونُصب عينها مهمة رسمية: ارجاع اللعبة دون علمهم، ونجحت في حمل اللعبة تحت جلبابها بعد أن رمقتها في إحدى الغرف متحججة برغبتها في استكشاف رحابة البيت وغرفه، وعادت منتشية بنصرها إليه كمن يحرر رهينة حرب، وشده أكثر أنها لم تشأ قول شيء لأم الطفل كي لا تعنفه، وفي زيارتهم المقبلة أخذت بيد الطفل ووبخته بعيدا عن أمه وعن أعين الناس عدا عين حفيدها التي دائما ما تراقبها لتعلم الدروس، وكان يعلم مقال جدته ولباقتها في هكذا مواقف فلطالما وبخته هو الآخر على كل نواقصه وأرشدته إلى الطريق الصحيح.

من المعروف أن أصحاب الحِمية يفقدون الوزن بسرعة لكن مع الوقت يصبح فقدان الوزن صعبا، ذلك لأن الجسم لا يتأقلم مع هذا النقص المفاجئ في الطاقة فيبدأ في تقليل حرق الدهون، وعند مفترق الطرق هذا يولد الشك، فيصاب كثير من الناس بالإحباط وقليل منهم من يبقى متشبثا إما عن أمل أو عن علم، مضى اليوم شاقا على صاحبنا وتركه في مفترق الطرق هذا كيتيم ترك عند باب المسجد.

“اسمي عقيل و قد شاء من شاء أن تكون أحرف اسمي مطابقة لأحرف كلمة العقل” هكذا و بكل فخر كعادته قدم صاحبنا نفسه لوافد جديد في المكتب…

1xbet casino siteleri bahis siteleri