نافذة على فلسفة التاريخ

لا شك في أن ابن خلدون (ت٨٠٨ه) هو رائد ومؤسس ما عرف ب”فلسفة التاريخ”، وهي تلك الطفرة الفلسفية التي حولت دراسة التاريخ من مجرد سرد للحوادث التاريخية، إلى تعليل لها واستنباط للقوانين التي تنظمها.
فقد كان التاريخ قبل الريادة الخلدونية عبارة عن تسجيل سردي لحوادث السنين، فالأحداث التاريخية كانت تروى كما هي دون أن يتساءل المؤرخون عن مدى اتفاقها أو اختلافها مع قوانين الطبيعة، أو قواعد السياسة، أو مع طبائع العمران البشري وأحوال الإجتماع الإنساني، مما أدى بكثير من المؤرخين والمفسرين وأئمة النقل إلى الحيد عن جادة الصدق لاكتفاءهم بمجرد النقل غثا وسمينا.
يقول الأستاذ خالد طحطح في كتابه (في فلسفة التاريخ) : “كان التاريخ قبل ابن خلدون لوناً من ألوان الأدب، ونوعاً من أنواع المسامرة، وسرداً للحوادث. لقد كان الأقدمون ينظرون إليه كديوان أخبار، ولم يعدوه علماً من العلوم له قواعده وأصوله وأسسه ومناهجه. ولا ينكر أحد أن التاريخ أضحى على يد ابن خلدون علماً متكاملًا راسخاً، إذ لم يهتم بالتساؤل عن أحداث الماضي وتسجيلها، وإنما كان يسأل أيضاً عن كيفية حدوثها. بل تقدم إلى مرحلة سامية في المعرفة، فتساءل عن سبب وقوع هذه الأحداث”.
إذن فهذا التوصيف الخلدوني الجديد لعلم التاريخ، يتطلب من المؤرخ، لا جمع المادة التاريخية فحسب، بل ربط الحوادث التاريخية بعللها وأسبابها، وتقصي تلك العلل والأسباب التي كانت خلف تلك الحوادث.
كما نجد أن ابن خلدون يميز بين الظاهر والباطن في التاريخ، حيث يقول:” التاريخ في ظاهره لا يزيد عن أخبار عن الأيام و الدول ، و السوابق من القرون الأُول تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال ، و تطرف فيها الأندية إذا غصَّها الاحتفال،و تؤدي شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال.
وباطنه نظر وتحقيق، و تعليل للكائنات و مباديها دقيق، و علم بكيفيات الوقائع و أسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، و جدير أن يعد في علومها و خليق.

ومن هنا يظهر لنا المنهج الفلسفي الحضاري لابن خلدون، الذي اعتمد فيه على النقد والتحليل العميق للحدث التاريخي بدل نظام التأريخ الحولي أي إيراد الأحداث والوقائع التاريخية مرتبة حسب السنين.

كما نجد أن ابن خلدون بمرجعيته الإسلامية، وأفكاره النابعة من القرآن الكريم والسنة النبوية، تخطى الأساليب السائدة التي يغلب عليها التقليد والجمود، وبهذا المنهج المتكامل استطاع أن يصوغ علما حاز قصب السبق فيه، يدرس فيه حركة المجتمع وعلاقتها بحركة التاريخ. وهو ما يسمى بعلم الإجتماع الإنساني.

يقول ابن خلدون(ت٨٠٨ه) في هذا الصدد:” وأعلم أنّ الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة، عزيز الفائدة، أعثَر عليه البحث، وأدّى إليه الغوص، وهو ليس بِعلم الخطابة، وإنّما هو الأقوال المُقنعة النافعة في استمالة الجمهور إلى رأيٍ أو صدهم عنه، ولا هو أيضاً من علم السياسة المدنية، وكأنه علم مستنبط النشأة، ولعمري أنني لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة، ولا أدري هل غفلوا عن ذلك؟ وليس الظن بهم، أو لعلّهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم يصل إلينا؛ فالعُلوم كثيرة، والحُكماء في أمم النوع الإنساني متعدّدون، وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل”

1xbet casino siteleri bahis siteleri