فن الاختيار

نجد أنفسنا باستمرار أمام ضرورة القيام باختيارات لأن الحياة مليئة بمفترقات طرق؛ ولأننا نحس عندما نختار بأن لدينا سلطة على مجريات الأمور، وأننا نهرب من قدرنا، أو أننا نحاول أَن نلحق به.

لا نستطيع أن نعيش بدون الإحساس بأننا نحن من نصنع حياتنا. نريد أن نكون مثل الفنان الذي يرسم لوحته كيفما شاء، والكاتب الذي يختار أبطال قصته ويغير أحداث قصته وقتما شاء. نريد أن نرسم لوحة حياتنا الفريدة بقراراتنا، نريد أن نكتب قصتنا المختلفة عن الآخرين عندما نصر على قرار ما أو عندما نأخد وقتا طويلا للتفكير أمام قرار صعب. لأننا نريد أن نملك القلم، والفرشاة، والورقة واللوحة.

لا أدري هل نحن من نختار طريق حياتنا بالفعل.

في بداية الأمر لم نختر آباءنا، ولا إخواننا، ولا عائلتنا، ولا أوطاننا، ولا ديننا ولا الطريقة التي تربينا بها، ثم أثرت فينا كل هذه الأشياء بشكل كبير جدا في اختيار كل شيء. أثرت فينا القصص والأغاني التي سمعناها في مراحلنا الأولى ثم الأفلام والمسلسلات التي شاهدناها في فترة المراهقة المبكرة فيما بعد في اختيار شريك الحياة، على أنه يجب أن يكون بشكل معين وأن نتعرف عليه في إطار معين وأن يعاملها بطريقة معينة ويجب أن تمر الأمور كما رسمناها في مخيلتنا لسنوات لكي يستحق لقب توأم الروح وحبيب القلب والفارس المغوار أو الأميرة الحسناء.

يؤثر فينا كلام الناس كثيرا وتؤثر فينا أحاسيسنا وعواطفنا وأفكارنا المترسخة منذ الطفولة في جدران أذهاننا في اختيار كل شيء… فما هو هامش الحرية الذي بقي لنا في الاختيار؟ أم أننا نختار الطريقة التي سنكمل بها الطريق فقط؟ طريقا كان مرسوما لنا من قبل والذي وجدنا أنفسنا فيه بدون سابق إنذار.

نختار الطريقة وليس الطريق.

نختار الدور وليس المسلسل.

لا أظن أنه بإمكاننا أن نختار فعلا وبشكل حر، إذا ما لم نعرف من نحن ومن أين ينبع قرارنا وما مدى التأثيرات الخارجية علينا وتأثيرات عقدنا النفسية الداخلية على كل قرارات حياتنا. لنأخذ على سبيل المثال اختيار جوهر حياتنا ورسالتنا السامية في الحياة: عبادة الله. هل كان اختياريا أم أننا ورثناه عن آبائنا فقط؟ انتشر في المجتمعات التي تلقت تعاليم الإسلام دون أن تفهم مقاصده، والتي عرفت اسم الله دون أن تعرف الله فعلا، انتشرت فيها فكرة خاطئة بأن إعادة التفكير في انتمائها لهذا الدين هو تلبيس لإبليس فقط، وأنه يجب التعوذ بالله من الشيطان الرجيم إذا ما جاءتك هذه الخواطر الشيطانية. هذه المجتمعات تمرر الدين بطريقة وراثية تنتج إسلاما ثقافيا يتلقى فيه الشخص دينه عن غير فهم فيجهل عن دينه كل شيء، اللهم إلا بعض العبادات والمعاملات التي تندثر مع الزمن فيصبح المسلم يحمل معه إسلاما مفرغا من محتواه، إسلاما مناسباتيا يعطيه إحساسا بالانتماء وتفسيرا ميتافيزيقيا لما سيأتي بعد الموت، لكنه لا يعطيه الرسالية والمعنى العميق لحياته فوق الأرض، فلا نرى له أثرا سوى شراء الأضاحي، وصوم رمضان، وصلاة الجمعة، والذهاب للحج والعمرة.

الخوف من مواجهة مثل هذه الأسئلة الوجودية -هل ورث الناس دينهم أم اقتنعوا به؟- أفسد على الكثير من “المسلمين” فرصة الانتقال من وراثة الإسلام إلى اعتناقه كما اعتنقه المسلمون الأولون واختلط بوجدانهم وأعطاهم الإحساس بأنهم اختاروا لحياتهم رسالة ومعنى كان سببا في حضارة امتدت بسرعة على ثلاث قارات وأنتجت أسلوب حياة ومنهجا في التفكير وشريعة يدافع عنها صاحبها بالفعل لأنه مقتنع بها بالفعل.

مقالات مرتبطة

إن الخوف من مراجعة العلاقات التي تجمعنا مع آباءنا وإخواننا وأزواجنا وإعادة بنائها على أسس صلبة أيضا أفسد على الكثير منا سنوات من الوئام والود والتلاحم، والخوف من تجديد الاختيارات التي قمنا بها في لحظات ضعف أو عدم نضج أو تبعية وإعادة بنائها على أسس صلبة معقولة، أخرج لنا جيلا بدون هوية لأنه غير متمسك فعلا بهوية أجداده ويتوق في نفس الوقت لهوية غيره، لا يعرف ماذا سيختار وكيف يعيش. هناك تحد آخر من نوع آخر بخصوص فن الاختيار؛ لدينا اليوم خيارات كثيرة ومتشعبة، أكثر من أي وقت مضى إلى درجة أننا فقدنا القدرة على الاستمتاع والتركيز على الاختيار الذي نقوم به.

يعترينا اليوم الخوف المزمن من أن يفوتنا شيء مهم في الوقت الذي نختار أن نقوم فيه بشيء ما، أو أن يكون اختيارنا متسرعا أو سيئا لأننا سرعان ما نقارنه بكل هذه الاختيارات التي تتيحها لنا وسائل المعلومات من اقتراحات ومنتوجات معروضة. أتذكر على سبيل المثال بأنه قبل حوالي خمس عشرة سنة، كنت أذهب يوميا، بعد الانتهاء من تحضير امتحانات كلية الطب، عند بائع أفلام فيديو بحي گيش الوداية يدعى سعيد… كان يعرف ذوقي السنمائي جيدا: أحب الأفلام الدرامية، والفلسفية والقصص الواقعية التي تؤثر على العقل الباطن والتي لا يمكن الكشف عن لغز الفيلم دون تحليل دقيق لما يجري… كان يعطيني خمسة إلى ستة اختيارات محاولا توضيح الفكرة العامة لكل فلم. أختار بعدها فلما أو اثنين لأشاهدهما قبل أن أنام، كوسيلة لنسيان واقع مرحلة التحضير للامتحانات التي يمر بها كل طالب في كلية طب يحفظ عن ظهر قلب كل ما هو أمامه.

كنت أشاهد الفلمين ثم أنام وأنا على اقتناع تام بأني أحسنت الاختيار. اليوم أَجِد صعوبة كبيرة لكي أحس بنفس الاقتناع الذي كنت أشعر به، وإن كان لدي اشتراك الآن في باقة من آلاف الأفلام عالية الجودة التي تتجدد باستمرار بالترجمة التي أريد وبدون تكبد عناء الذهاب عند سعيد. في الكثير من الأحيان أضيع وقتا كبيرا قد يصل إلى مدة فيلم كامل في محاولة البحث عما أريد مشاهدته، وعندما أقتنع بفلم معين يرتابني شك بأني قد أَجِد ما هو أحسن إن واصلت البحث. هذا ما يحدث في العلاقات العاطفية كذلك والزواج بشكل عام، لم تكن الأمور معقدة كما هو الأمر الآن؛ وكان أجدادنا يعرفون من سيتزوجون بهم منذ الصغر من بين أبناء وبنات الجيران والعائلة، ويدوم الزواج عقودا من الزمن ولا تعتريهم الشكوك بأنهم أساؤوا الاختيار.

لم يكن الزواج وقتها مبنيا على الرومانسية العاطفية بقدر ما كان مبنيا على التزام الطرفين بعدة من المبادئ والواجبات. أما الآن فقد كثرت تطبيقات التعارف عالية الجودة ومواقع التواصل الاجتماعي التي تضم كل بيانات الشخص الذي تنوي أن تتحدث معه أو أن ترتبط به: صوره، إنجازاته، أسفاره، عائلته، أذواقه، ميولاته، الكتب التي قرأ وحتى الأفلام التي شاهد “عن اقتناع”؛ وكلما كان لدينا خيارات أكثر، كلما زاد عدد الخيارات الجذابة. المشكل أنه ليس لنا الوقت الكافي لاكتشاف كل هذه الخيارات؛ وفِي العلاقات العاطفية، ليس لدينا مخزون من الطاقة العاطفية الكافية لتوزيع الحنان والمحبة والاهتمام على كل مشتبه بأنه قد يكون توأم الروح الذي تبحث عنه أرواحنا باستمرار لكي تستقر وتتوازن حسب ما يقال.

الذي يعيش قصة عاطفية مع أحد المشتبه فيهم وتنتهي بنهاية مأساوية كما هو حال أغلب القصص الغرامية -لأن التوقعات تكون دائما أكبر بكثير من الواقع- يلزمه وقت كبير لإعادة اختيار مشتبه به آخر وغالبا ما تنقص الثقة وتكثر الحيطة والحذر ويقسو القلب كلما انتقل من علاقة غرامية إلى أخرى، ويبني اختياراته على خياراته السابقة وقد ينتهي به الأمر بدون زواج لأنه فقد الثقة في الحب أو أن تزوجه أمه ممن تجدها صالحة له لأنه لم يستطع أن يختار لنفسه أمام وفرة كل المشتبه فيهن. عندما تكون خياراتنا قليلة فإننا نكون سعداء بما نختاره لأننا نكون على ثقة من أنه الخيار الأمثل.

أما عندما تكون خياراتنا غير محدودة فإننا نعتقد أن الخيار الأمثل موجود في مكان ما وأنه من مسؤوليتنا العثور عليه. في هذه الحالة يصبح الاختيار معقد للغاية: إذا قمنا باختيار متسرع دون استكشاف الخيارات المتاحة بشكل كامل فسنأسف على احتمال فقدان شيء أفضل، أما إذا دققنا وحللنا جميع الخيارات، فسنستثمر الكثير من الجهد، وستظهر لنا فيها اختلافات بسيطة ثم نأسف لعدم قدرتنا على اختيارها جميعًا.

وهذا يحدث في كل مناحي الحياة من أمور بسيطة كاختيار مطعم، إلى أمور من الدرجة العالية من الأهمية، مثل الزواج أو العمل. بصفة عامة، سواء تعلق الأمر بخوض تجربة مهنية أو علاقة ما، يجب على من يختار أَن يقوم ببعض التضحيات، لأن كل اختيار يحمل في طياته تكلفة نفسية ستلازمه دائما وهو نقص كمال اختياره وأنه لن يكون كما تخيله أو كما عاشه في مخيلته. إذا لم تكن هذه التضحية وهذا الرضى فسيقل التمتع بما اختاره بسبب أسفه على ما تخلى عنه.

أكيد أن حل صعوبة الاختيار ليس هو الإصرار على المزيد من الاختيارات عندما يكون لديك ما يكفي. ربما يكون الحل هو عكس ذلك تماما: التقليل منها والرضى بها. وربما يكمن فن الاختيار في تحقيق التوازن الصعب بين آمالنا ورغباتنا الدفينة مع الإمكانيات الموجودة. كما قلت في مقدمة هذا المقال، الاختيار ما هو إلا الفن الذي نرسم به حياتنا، وكأي فنان يحترم فنه ويحترم نفسه كذلك، يجب أن يكون اختياره نابعا من معرفة ذاتية لنفسه لتتناسب اختياراته مع مكوناته النفسية والروحية، وأن يتمسك ببعض المبادئ ويحتفظ ببعض التوجيهات ولا ينساق مع كل لون وشكل، لأن لوحة حياته ستكون بدون معنى في آخر المطاف إذا ما كانت اختياراته متناقضة ومتعددة. هذا الانضباط والالتزام بالأصلح والأهم هو من أصعب الأمور التي يعيشها الإنسان في عالم مليء بالاختيارات.
والله أعلم.

1xbet casino siteleri bahis siteleri