شعب يبحث عن المعنى

بعدما انتهيت من قراءة الكتاب المميز “الإنسان يبحث عن المعنى: Man’s search for meaning” للكاتب والطبيب المختص في الأمراض النفسية فيكتور فرانكل، بدأت أطرح على نفسي العديد من التساؤلات التي تهم مضمون هذا الكتاب الذي يذهب العقل وأهمها: ما هو المعنى الذي ترتكز عليه حياتي؟
الكاتب يتحدث عن تجربته القاسية والشاذة لمدة ثلاث سنوات في أشهر مخيمات الاعتقال النازية في أوشفتز، وكونه طبيبا نفسيا بدأ يحلل تصرفاته وتطور أفكاره وتصرفات السجانين والسجناء الذين كان معهم طوال مدة الاعتقال.
وضعت نفسي مكانه، وعشت طوال مدة قراءتي لهذا الكتاب الذي ذكرني بكتاب “تزمامارت، الزنزانة رقم ١٠” لأحمد المرزوقي فظاعة التعذيب النفسي والجسدي الذي مورس على الطبيب السجين ومن معه. ولمست من خلال الكتاب السر الذي يجعل الإنسان يحافظ على ما تبقى من حريته الروحية واستقلاليته العقلية في مثل هذه الظروف الرهيبة والذي ينطبق على كل ظروف الحياة المؤلمة من حروب وكوارث ومصائب ونوازل.
خلاصة تحليل الأخصائي النفسي الذي عانى الأمرين في معسكر الموت هو أن النفسية وطريقة التفكير التي يصبح عليها السجين ما هي إلا نتيجة قراره الداخلي وليس نتيجة تأثير المخيم لوحده. وبالتالي، فإن أي شخص يستطيع، ولو في ظل هذه الظروف، أن يقرر ما سيصبح عليه عقليًا وروحيًا وأنه من الممكن أن يحتفظ بكرامته الإنسانية ولو في أبشع السجون إذا ما استقر في نفسه الإيمان الكافي بما قد يخبئه له المستقبل، وإذا كان المعنى الذي أعطاه لحياته في الماضي لا يزال حاضرا باستمرار خلال مقامه الأليم في هذه الظروف التعيسة.
فقدان الثقة في المستقبل وغياب المعنى عن الحياة هو ما يحكم على الإنسان بالفشل، لأن ما يتبع ذلك هو فقدان الحيازة الروحية وانكسار النفس، فيصبح السجين عرضة للتفسخ العقلي والجسدي.


ثم قارنت ما حكاه الكاتب عن المعاناة الفردية للسجين الذي يجد حريته مقيدة والذي شاهد وعاش كل ألوان التعذيب، قارنت ذلك بالمعاناة الجماعية التي تحس بها شعوب الدول التي قيدت حريتها في العيش الكريم وعانت من النهب، والسلب، والفقر، والجهل، والتهميش، والفساد والاستبداد، ولو أنه لا مقارنة بين الألم المحسوس والملموس الذي يحس به السجين في نفسه وجسمه، وبين الألم المجتمعي الباطن الذي يتجلى في مظاهر الكسل والتبعية والهزيمة النفسية والسلبية والخنوع والعنف والفوضى.
ماحكاه الدكتور فرانكل ذكرني بما عشت في سوريا عندما ذهبنا إلى منطقة الدانا في حملة طبية جراحية هناك خلال الحرب، أو عندما زرت مخيمات اللاجئين في أطمة داخل الأراضي السورية، أو على الحدود التركية-السورية، أو عندما قمنا بحملة جراحية أخرى في قطاع غزة إبان العدوان الصهيوني على هذه الأرض المحاصرة، أو عندما عايشت العصيان المدني الذي قام به الشعب الغيني المقهور، أو مؤخرا عندما شاركت في حملة إغاثة الشعب الإندونيسي عقب الزلازل التي ضربت جزيرة لومبوك. تقريبا نفس الملاحظة، لأني خرجت من كل هذه التجارب بخلاصة أن الظروف قد تأخد من الإنسان كل شيء، وقد تحرمه من أشياء لا تعد ولا تحصى، ولكنها لا تستطيع أن تسلب منه حرية اختيار الموقف الذي سيواجه به هذه الملمات.
هذه الكوارث والظروف تظهر معدن الناس من خلال الطريقة التي يصارعون بها الحياة، وتظهر حريتهم الحقيقية في الاختيار. اختيار تخطي هذه الأهوال وعدم الانقياد لهذه القوى التي تسلب الإرادة والحريّة شيئا فشيئا.
هذه الشعوب عرفت كيف تجد في معاناتها معنى، فتحولت المعاناة إلى تضحية. فعندما نفهم بأن قدرنا ومصيرنا الحتمي لا بد له من المرور من الألم المزمن وأننا سنولد في الصيغة التي نريد من رحم المعاناة، فإننا نتقبل حينها تلك المعاناة ونصبر على ألمها المر ونتقبل صراع البقاء بدون أن نفقد جوهرنا ومكوناتنا الروحية.
وكلما تفردت بعض الشعوب فيما أصابها وتميزت عن باقي شعوب العالم في قضائها وقدرها كلما وجدت معنى في وجودها وكان هذا المعنى سببا في تخطي المصاب الذي ألم بها. كما أن الهوية والأفكار العميقة التي تلامس الروح والمستمدة من الدين بالخصوص هو ما يجعلها ترى أسمى معاني التضحية في أحلك الأوقات. هذه الشعوب هي التي تنهض بسرعة بعد حروب مهولة وتتغير في سنوات قليلة بعدما تقضي على أنظمتها الديكتاتورية وتملأ البلاد قسطا وعدلا كما ملئت في السابق ظلما وجورا… لأنها كانت واعية بمسؤولية الاستمرار والبقاء في الظروف القاسية… لأن أفرادها كانوا يحملون فكرة ومعنى تجاوز الظلم والقهر والفساد والاستبداد.
أما الشعوب التي لا تحمل رسالة، وتفتقد للمعنى من وراء كل ما يمارس عليها ولا ترى فيه اختبارا لقوتها الداخلية؛ هذه الشعوب التي لا تأخد حياتها على محمل الجد ولا ترى مسؤوليتها في تغيير أي شيء، ولا ترى الأمل في المستقبل ولا أي حل لما تمر به، وتظن بأنها مسلوبة الإرادة وأن مستقبلها بيد غيرها؛ هذه الشعوب تقرر ضمنيا الاستسلام للظروف فتعاني من فراغ وجودي قاتل تتولد عنه المتلازمة التي ذكرها فيكتور فرانكل في كتابه: اكتئاب-إدمان-عنف وتفقد اللذة في الحياة بشكل كامل وتصبح مثل السجين الذي ماتت روحه قبل أن يلقى حتفه والذي أبدع فرانكل في وصفه قائلا:
“…عادة ما تبدأ هذه الحالة مع السجين الذي يرفض الاستيقاظ في الصباح… يرفض أن يرتدي ملابسه أو أن يغسل أو أن يخرج إلى ساحات العرض… لا توجد عليه ضربات… لم يكن تحت أي تهديد ولا أي تأثير… هو فقط مستلق هناك، بالكاد يتحرك… يرفض أن يؤخذ إلى الطبيب… أو يفعل أي شيء لمساعدة نفسه.
لقد استسلم ببساطة.
هناك بقي، مستلقيا في إفرازاته ولا شيء يزعجه بعد الآن.”
كم من مواطن يعيش مثل هذه الحياة النفسية في ظل دولة ظالمة أو ظروف قاهرة… وكم من شعوب تعيش على هذا المنوال… شعوب فقدت المعنى!
فإذا كان هناك للحياة معنى، فيجب أن يكون للمعاناة معنى كذلك. لأن المعاناة جزء من الحياة. بدونها لا يمكن أن تكون الحياة كاملة.
بدونها لن يصل الإنسان لمعنى يدافع عنه.
وبدونها لن يكون للشعب معنى يبقيه على قيد الحياة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri