صناعة الكراهية

أوشكت تجربتي المهنية في بلجيكا على الانتهاء، إذ لم يتبق من مدة تعاقدي مع مستشفى بروگمان في بروكسل سوى شهرين فقط.. هذه أول تجربة أقضي فيها سنة كاملة في بلد غالبيته غير مسلمة؛ لكن إذا بقيت الأمور على هذا الحال، أي إذا استمر انخفاض المعدل العام للزواج وانخفاض معدلات الخصوبة بالمقارنة مع إنجاب ثلاثة أطفال أو أكثر لكل زوج مسلم بلجيكي ذي أصول إفريقية أو مغاربية، وزواجهم في الغالب من أقربائهم في المغرب مثلا وجلبهم إلى بلجيكا، فربما ستتطور الأمور إلى أن تصبح هذه دولة ذات أغلبية مسلمة على المدى المتوسط.
إذا أضفنا إلى ذلك، دخول مجموعة كبيرة من البلجيكيين إلى الإسلام، وتقلد المسلمين مناصب المسؤولية العليا، فإنه من الممكن جدا أن تصبح بلجيكا ذات غالبية مسلمة بعد عشرين سنة، تصوت وتستهلك، وتشكل مستقبل مملكة البطاطس المقلية.
في الوقت الراهن محمد هو بالفعل الاسم الأكثر شيوعا في بلجيكا. ويقال إن البلد سيصبح أول دولة ديمقراطية مسلمة في الاتحاد الأوروبي والعالم، كون جميع الدول المسلمة مستبدة عدا ربما قطر وتركيا وماليزيا.
الدول الأوروبية تقول بأن بلجيكا تحصد عواقب تسامحها مع العرب والمسلمين، وأنهم سيغزون أوروبا عما قريب لأنهم يتكاثرون كالفطريات في هذه القارة.
والجو العام في أوروبا يجعل الناس تتوخى الحيطة والحذر من سرعة انتشار الإسلام. نشعر فعلا بأن هذا الوجود مزعج، والتحدث عنه علانية أكثر إحراجا، لأن القانون يدين العنصرية والكراهية، ويقدس حرية الرأي والمعتقد.
بلجيكا لا دين لها، كما أن الاسلام لا وطن له. فلا يمكن تجريد مواطنين ولدوا هنا من دينهم في بلد قام على مبدأ الحريات.
الحل الذي بقي للحد من هذا الانتشار هو الشيطنة، والانتقاد، والتخويف، والإحراج والتقليل من شأن المسلمين وجعلهم يشعرون بأنهم ينتمون لفئة غير مرحب بها، وأنهم يجب أن يختاروا بين الإسلام أو القيم الغربية وكأنهما عدوان.

مقالات مرتبطة

العنصري شخص معقد للغاية، يستمد هويته من الآخر لأنه نقيض له. معتقده متغير لكن كراهيته ثابتة وغير مرنة. في بعض الأحيان يعرّف العنصري أوروبا على أنها يهودية مسيحية، وأحيانًا بأنها علمانية. يرتكز تارة على قراءة خاطئة للتاريخ ليذكر الأوروبيين بالحروب الصليبية وقصة الأندلس وحصار فيينا لكي يثبت بأن الإسلام عدو أوروبا الوحيد والأوحد، وأنه لا يتطابق تاريخيا معها. ويتحول تارة أخرى إلى عالم جينات يثبت التفوق الجيني للرجل الأبيض الغربي الذي يجسد ذروة التطور البشري، ثم يستند أخيرا على الإعلام وهو سلاحه الفتاك لكي يربط بشكل متكرر بين الإسلام والإرهاب، وبين اللحية والانفجار، وبين العرب والتخلف والهمجية، ثم يترسخ هذا الربط بتكرار أفكار محددة في إعلامه العالمي في نفوس الناس بنخبه السياسية، والاقتصادية، والعسكرية والفنية لأنها من ترسم السياسات وتضع الاستراتيجيّات، وغالبا ما تكون كل مواقفها معادية للإسلام.
كان هتلر يقول: “إنّ أفضل تقنيات حرب الدعاية هو الاقتصار على نقاطٍ محددةٍ بعينها وتكريرها مراراً وتكراراً على مسامع الناس.”
أشفق صراحة على هؤلاء العنصريين عندما يمرون من أحياء برابانت أو ستالينغراد أو بوكستال التي لا يوجد فيها سوى البلجيكيون ذوو الأصول المغربية، وهم في تعايش تام مع المهاجرين من الدول أخرى. الرجل الملتحي الذي يخرج من المرآب الذي تحول إلى مسجد هو من المشاهد الاعتيادية التي يكبر عليها الصبي الأبيض الأشقر أزرق العينين ابن الشوفيني العنصري المتعصب، أما إذا ارتدى الملتحي “قشابة” ومشى بجنب زوجته المنتقبة وهم يتبادلون نظرات الحب فقد يصاب العنصري بصداع في الرأس مع الغثيان والقيء وشيء من الإسهال.


العنصري الذي يعيش في أوروبا متعددة الثقافات يعلم بأن البلد يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى يد عاملة شابة، فهو يلمس ارتفاع سن متوسط سكانها، ويتتبع تحديات العولمة ويشهد ظهور أقطاب اقتصادية آسيوية وأمريكية لاتينية تنتج بسرعة وبتكلفة أقل؛ لأنها تملك يدا عاملة رخيصة وعددا كبيرا من السكان يستهلكون ويدفعون الضرائب. أوروبا ودول كبلجيكا تعرف جيدا بأن توازنها الديمغرافي واكتفاءها الذاتي باليد العاملة رهين بالهجرة، فهي لا تستطيع التخلص من كل هؤلاء العمال وأبنائهم وجيل بأكمله تربى في كنف أوروبا. ربما يظن العنصري الشوفيني بأنه إن كان الوالدان حريصين على التشبث بالمبادئ والتعاليم الإسلامية أو على الأقل الدفاع عنها، فهذا لا يعني بأن أبناءهم لن ينغمسوا في قيم الليبرالية والرأسمالية التي تحكم القارة العجوز.
أوروبا تغض الطرف الآن حتى عن المهاجرين السريين والنازحين السوريين لتجد من يعمل في بعض المهن غير المرغوب فيها، ولتلمع صورتها الحقوق_إنسانية.
يقول تاراك بركاوي، المحاضر في المركز الدولي للدراسات بجامعة كامبريدج: ”إن الغرب قد أخطأ في تحديد العدو” و ”أن أكبر تهديد للقيم الغربية ليس التعددية الثقافية بل النيوليبرالية”؛ النيوليبرالية التي أعادت تعريف الرأسمالية على غير القيم، وفضلت التركيز الماكيافيلي على الأهداف المادية بغض النظر عن الأدوات المستعملة، وتمحورت على إشباع كل رغبات الإنسان دون كبح جماحها، والبحث الدائم على الرفاهية والترفيه المستمر والحريّة المطلقة كطرق لجلب السعادة.
الذي يدقق في الحياة الغربية يجد بأن آخر ما يتمتع به الغربيون هو الحرية نفسها التي يفتخرون بها؛ إذ يتم إغواؤهم بشكل مستمر بأن حقوقهم الأساسية تكمن في الاستهلاك، وأن إشباع اللذة والجري وراء المتعة هو أقصى تعبير عن الحرية. الطامة الكبرى في المجتمعات الغربية هو أن هدف الإنتاج لم يعد هو إشباع الرغبات الإنسانية وإنما أصبح هدفا لذاته؛ لكي يستمر النظام الليبرالي الرأسمالي فلا بد من إنتاج سلع وأشياء وإن كان لايريدها الإنسان، ولو على حساب الطبيعة والدول الفقيرة التي يتم استعباد العاملين في معاملها والإبقاء على تبعية اقتصادها. الغربيون لديهم انطباع بأنهم يختارون في مجتمع يخلق احتياجات وهمية تدفعهم للاستهلاك والجري وراء سعادة عرفها الإعلام الرأسمالي الفرداني في ثلاثية: الحب الرومانسي والجسم المنحوت والغنى الفاحش. إلى درجة أن يصبح للناس في الغرب على اختلاف ثقافاتهم وأصولهم نفس الرغبات، والشهوات، والتوقعات والأحلام.
الناس في أوروبا بدأت تهرب إلى ما يغذي أرواحها بعدما لم تجد في النظام الرأسمالي المتمركز حول الذات السعادة المنشودة. من الأوروبيين من يحاول خلق التوازن بالذهاب إلى حصص اليوغا والتأمل المستمدة من الفلسفة الشرقية، والتي تعتمد بالأساس على الجانب الروحي ومنهم من يرى في هذه الروح نفحة إلهية ويرى في الحياة معنى يتجاوز الموت فيعتنق إحدى الديانات السماوية. الكثير من الأوروبيين لم يعودوا قادرين على شق حياة مادية أنانية وحيدة تراكم إشباع النزوات وتكثر من الرغبات في تنكر تام للوالدين وأقرب الأقربين.
أظن أنه من البديهي أن ينتشر الإسلام كمشروع مجتمعي وبديل حضاري في هذا الوسط المادي المنخنق روحيا والمفكك اجتماعيا؛ ومن البديهي أن يهاجر الرجل الغربي من هذا التفكك النفسي والأسري إلى مجتمع لا يزال يحافظ على دفء الروابط الأسرية، حتى وإن خرج الأبناء من بيوت أبويهم أو حينما يذبل الوالدان وتضعف قواهم.
الليبرالية حولت المجتمع الأوروبي لمجتمع جشع جاف، وحولت الحياة في الغرب إلى سباق حامي الوطيس لكسب المال وإشباع الشهوات كطريقة مثلى للوصول إلى السعادة. هذا التصور المجتمعي جاء على نقيض ما دعى إليه الإسلام من التقليل من الكماليات، والتركيز على الضروريات، ومجاهدة النفس والتفكير في الوسيلة قبل الغاية، والذي لا يوهم الناس بسعادة وهمية من خلال اقتناء الأملاك وتعدد التجارب المادية ولكنه يدعو إلى السير في مدارج السالكين والذاكرين بإيمان قوي، وبنجاحي الخوف والرجاء إلى بر السكينة والطمأنينة حيث ترضى النفس بما أوتيت وتكون من الشاكرين.
النيوليبرالية قضت على القيم المسيحية في أوروبا، أقلية صغيرة جدا من المسيحيين مثلا، خاصة كبار السن، هي التي تصوم الأربعين يوما، في المقابل نجد أن أكثر من 95 ٪ من المسلمين يصومون رمضان. لم تعد أوروبا يهودية مسيحية، استبدل يسوع باليورو فهي تعبد المال فقط.، أوروبا ليبيرالية رأسمالية صرفة، يشعر فيها المسلمون الغربيون بالغربة لأنها إيديولوجية مادية تعتمد على مبدأ الربح والخسارة وعلى التعاقد لا على التراحم، وبالتالي فهي على نقيض ما أتت به روحانيات الإسلام ومقاصده.
الإنسان الذي يسعى للحفاظ على سلامته الروحية قد يفشل بالمعايير السائدة في المجتمعات الغربية التي تقدس الإنتاج المادي الضخم، والنجاح المالي المبهر، والاستهلاك المفرط لكل ما هو جديد ولكنه ينجح بمعايير أكثر أصالة وإنسانية، أي أنه يقضي الكثير من الوقت مع عائلته، وأقاربه، وأصدقائه وأحبابه على حساب إنتاجيته المادية، ويوافق بين عمله وأنشطته الروحية ولا يسعى إلى شراء أشياء لا يحتاجها بأموال لا يملكها ليلفت انتباه الآخر، وليثبت نفسه في مجتمع استهلاكي يسير نحو الهاوية؛ أي أنه لا يحمل ما لا طاقة له به ليشتري ما لا يحتاجه؛ لا يريد أن يكون كالذي يربح كل شيء ويخسر نفسه التي تتآكل بالأزمات العصبية، والتوتر، والإرهاق والمنتهي بالاكتئاب عندما لايتحقق المعنى وتغيب السعادة وسط كل ما حازه من أملاك. ينجح في تحقيق التوازن بين مكوناته الروحية ومتطلباته المادية، وفِي إيجاد معنى راقٍ للحياة يستمده من مصدر إلهي يستسقي منه المعتقدات، والأخلاق والتفسيرات المعنوية التي لا يستطيع الإنسان المادي الاستهلاكي تفسيرها كالغاية من الوجود ومصير العباد بعد الموت، فيحقق به معنى عميقا لحياته ويصل به إلى حالة من السكينة النفسية والسلامة الروحية.
هناك تكاثر مهول للمساجد في أوروبا، وانتشار واسع للإسلام، وارتفاع في عدد معتنقي البوذية ومختلف المعتقدات الشرقية. هذه نتيجة بحث الناس عن معنى لحياتهم غير معنى مترو-عمل-نوم ونتيجة فشل الرأسمالية في خلق الإنسان السعيد المتزن وسط الضوضاء ووتيرة الحياة السريعة وتكرار نفس العمل في نفس الأوقات والرتابة والبؤس.
انتشار الإسلام لم يؤجج من قبل المسلمين ولم يتم نشره بالسيف أو القنابل، بل هو تطور طبيعي للأشياء التي لا تريد أوروبا لسوء الحظ الاعتراف به، وتريد التصدي له من خلال استغلال بعض الهجمات “الإسلامية” المزعومة (0.4٪ من الهجمات)، واستغلال بعض الانحرافات السلوكية لشباب مسلمين مهمشين يعيشون أزمة هوية ليشيطنوا واحدة من أكبر المجتمعات: مسلمي أوروبا.
أوروبا بحاجة إلى الكثير من القيم الإنسانية التي فقدتها عندما اختارت الرأسمالية دينا لها؛ هذا المجتمع بحاجة إلى من يمده بالقيم ومنظومة من الأخلاق كالمجتمع الإسلامي الذي يحاربه ويشيطنه، وبحاجة إلى تعدديتها الثقافية التي تنمط وتندثر، ومكوناتها الروحية -سواء كانت مسيحية أو يهودية- السائرة في الانقراض لكي تخرج الإنسان الغربي الاقتصادي الاستهلاكي الحديث من حياة اللامعنى، ومن الإنسان_الآلة إلى منظومة أكثر إنسانية وأخلاقية تصالح الإنسان مع إنسانيته.
أوروبا تحتاج كما قال عبد الوهاب المسيري: إلى “حداثة جديدة تتبنى العلم والتكنولوجيا ولا تضرب بالقيم أو بالغاية الإنسانية عرض الحائط، حداثة تحيي العقل ولا تميت القلب، تنمي وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث… حداثة تتجاوز الحداثة الداروينية، المنفصلة عن القيمة، المبنية على الصراع، والتنافس، والتقاتل والاستهلاك المتصاعد وصولا إلى حداثة إنسانية تنطلق من إنسانيتنا المشتركة، حداثة تدير المجتمع بطريقة مختلفة، فهي لا تدور في الإطار المادي الشامل، ولا ترى الإنسان مادة محضة، ولا تنفصل عن القيمة… وإنما تدور في إطار منظومة قيمية ترى أن تحقيق السعادة لا يكون بالضرورة عن طريق زيادة الثروة ونهب الطبيعة واستغلال الإنسان، وإنما عن طريق تبني قيم إنسانية ربانية مثل العدل والتكافل والتراحم والتوازن (مع الذات ومع الطبيعة)… وفي ذلك خيرنا وخير الإنسانية كلها.”

1xbet casino siteleri bahis siteleri