دون كيخوته: أسطورة التاريخ الخالد ج2

1٬122

في رواية دون كيخوته نمطان من الدعوى، دعوى المؤلف ثربانتس ودعوى البطل كيخانا [دون كيخوطه]، إنهما تتكاملان لتشكيل الدعوى المركزية في هذا النص الروائي، فدعوى المؤلف لا يمكن التحقق منها إلا من خلال العمل بكامله والطريقة التي ألف بها مؤلفه الخالد، وأيضا الدور البارز في تشكيله لنص له من المواصفات الخاصة، التي كان لها التأثير البالغ في النصوص التي مثلتها، والحديث عنها مرتبط بالأسطورة الشخصية للبطل، ما دامت تتحقق من خلال النص نفسه وعلى لسان كاتبه، أما دعوى البطل فيمكن الكشف عنها من خلال بناء النص والوقوف عند وظيفتها المركزية.

من خلال ما تقدم، يمكن التمييز بين الأسطورة الشخصية للبطل، والأسطورة الشخصية في دون كيخوته، التي هي الرواية الأسطورة نفسها للكاتب.
فالدعوى تمثلت في قرار دون كيخوته الشخصي، والذي اتخذه نتيجة قراءاته المتواصلة والمتعددة لروايات الفروسية، لذلك صمم ترجمتها على أرض الواقع، فصار حلما يراوده ويسعى لتحقيقه، فأصبحت أسطورته الشخصية متمثلة في أن يصبح فارسا جوالا محاربا لشرور العالم، يقول: “وأخيرا، وقد فقد صوابه، استبدت به فكرة هي أغرب ما يتخيله مجنون في هذه الدنيا، لقد رأى من اللائق بل من الضروري، سواء لتألق مجده ولخدمة وطنه، أن يصبح فارسا جوالا، فيسعى في مناكبها، ببرذونه وسلاحه، وراء المغامرات، وأن يمارس جميع ما قرأ أن الفرسان الجوالين يمارسونه، فيصلح الأخطاء، ويتعرض للأخطار في كل المناسبات حتى ينال بمجابهتها والتغلب عليها ذكرى لا تمحى أبدا، وكان يخيل إليه، هذا المسكين، أن قوة ساعده ستتوج بتاج إمبراطورية طرابزون على أقل تقدير.”
وبذلك فأسطورة دون كيخوته يمكن تحديدها في ما يلي:
-أن يصبح فارسا جوالا؛
-أن يخرج للمغامرات؛
-أن ينظف العالم من الشرور والأخطاء.
وفي كل هذه الحالات يضع نصب عينيه نموذجا من نصوص الفروسية، التي باتت تطاوعه في مخيلته، فهو بمعنى آخر يريد وبكل إصرار أن يكون “أماديس الغالي” في عصره لينال المجد والخلود.
أما دعوى النص فيمكن إيجازها في ما يلي:
-الانتقال من شخص نبيل إلى فارس جوال؛
-أن يخوض المغامرات ويصلح ما فسد في العالم [تحقيق عالم مثالي]؛
-أن ينال الخلود نتيجة ما سيقوم به.
ولتحقيق هذه الأسطورة الشخصية، أو الوظيفية المركزية، كان لا بد من الانتقال من مرحلة إلى أخرى، والتي يمكن إجمالها فيما يلي: الأوان، والقرار، والنفاذ.

-الأوان:
إن أول وظيفة بعد تجسيد الوظيفة المركزية، هي زمان أو أوان التحقق، إذا كان الأوان أو الأسطورة المتعالية يتحقق قبل ميلاد البطل كما أشرنا سابقا، فإنه في دون كيخوته نجده يتحقق مباشرة بعد اعتناق البطل لأسطورته الشخصية؛ إذ لا نجد فاصلا زمانيا كبيرا بين الوظيفة المركزية الثانية، “وراح نشوانا بهذه الأفكار الحلوة وما فيها من إغراء لا يقاوم، وراح يبادر إلى وضع هذه الأمنية موضع التنفيذ”، وهكذا باشر دون كيخوته فكرته، فقام بتنظيف الخوذة، والبحث عن برذون، وتنظيف المشك، وإعطاء اسم جديد له ولفرسه [دون كيخوته] و[روثينانته]، ولم يبق إلا أن يبحث عن محبوبته [دلثينا دل توبوسو].

-القرار
أما القرار فسيتم بخروجه من قرية المنتشا، وفي أول خرجة للماهر دون كيخوته خرجها من وطنه، والسمات التي طغت على هذا الفصل هي العجلة، وفي بضعة أيام لا تتجاوز اثني عشر يوما لاعتقاده أن تأخره سيفقد العالم الكثير، إن عجلة دون كيخوته في شروعه في تطبيق أسطورته الشخصية، مفارق لما اعتدناه في النصوص السردية، فهو رأى أنه قد قدم نتاجا جديدا لا مثيل له، وأن ما أقدم عليه في تحقيق تنفيذه لهذا المشروع كان بشكل سريع وغير متوقع، “وخرج إلى الحقول من باب خلفي ناحية حوش الدواجن وقد استطاره الفرح؛ إذ شعر بالسهولة التي تم بها البدء في تنفيذ غرضه النبيل”، “لكنه لم يكد يخطو بضع خطوات حتى هاجمته فكرة مخيفة كانت على وشك أن تصرفه عن المضي في مشروعه”، إن تردد بطلنا دون كيخوته المباغث بعدما قرر الخروج والمغامرة بين لنا الصورة التي خطاها والقرار الجد سريع، ولعل ذلك ما كان سببا في فشل أسطورته الشخصية.

مقالات مرتبطة

-النفاذ
إذا كان القرار يحتل مكانة بارزة في بناء الرواية، لكونه يكشف لنا عن طبيعة الشخصيات المركزية وأدوارها لتحقيق أسطورتها الشخصية، ويدفع بالقارئ إلى طرح تساؤلات عن مصير البطل، هل سيحقق أمانيه أم لن تتحقق، وبعد توغلنا في أعماق النص تبين لنا أن الحلم بعيد المنال وأن الخيبات متواصلة، لا تؤدي إلا إلى الهزيمة وعدم نفاذ الدعوى.
وهكذا تنتهي أسطورة دون كيخوته، ومعه تنهار أسطورة [سانشو بنثا] ويعود دون كيخوته إلى أصله، بعد انتصار فارس المرايا، [سمسون كرسكو صاحب الباكالوريا]، الذي عمد إلى أن يثني على دون كيخوته عدم مواصلة مغامراته رأفة به، واسترجاع وعيه والعدول عن غيه، فجاءه متنكرا على هيئة [فارس القمر الأبيض]، وبذلك أجهضت كل أحلامه التي أعلن عنها في الدعوى وهذا ما يعني أن النفاذ لم يتحقق أيضا.

-الدعوى المضادة
وتتمثل الدعوى المضادة في الحكم بالجنون على البطل، ومنذ أن عانق أسطورته الشخصية، وانتهت الدعوى بردع دون كيخوته عن مواصلة ما سعى إلى تحقيقه، وهكذا نستنتج أن الدعوى المضادة قد أنهت الدعوى المركزية للبطل، وذلك بإبعاده عن تحقيق أسطورته الشخصية، مادامت وليدة قراءاته لنصوص لا قيمة لها، سخر منه كل المحيطين به، ولم تتوقف أسطورته المستعجلة، إلا على يد كركسو الذي بارزه وأذاقه الهزيمة النكراء.

وبالحديث عن المناص الخارجي ولو عن بعد، هناك إضاءات مهمة تكشف لنا الخلفية النصية ووعي الكاتب وتفاعلاته مع النصوص الأخرى، وهذا ما سماه جيرار جنيت “بالعتبات” التي تساهم بشكل كبير في معرفة خصوصية الكتابة الإبداعية عند الروائي، وملامحها المتميزة في علاقتها مع النص المنتج، لأن وعي الكاتب ضروري في عملية الكتابة، يرى سعيد يقطين ضرورة قراءة المناص الخارجي “باعتباره نصا يتم إنتاجه بموازة النص الروائي، ونسعى إلى تحليله وفق الأسئلة والقضايا التي تمليها علينا نظرية التفاعل النصي العام والتعلق النصي بوجه خاص، وذلك بهدف وضع المناص الخارجي وجها من وجوه نصوص الكاتب، لنقف على خصوصيته التفاعلية التعلقية.”
إن أسطورة دون كيخوته، تتجسد في كتابة مؤلف يكون الأجمل والأروع والأظرف، لا نظير له، إلا أنه أصبح يشك في إمكانية تحقيق هذا الطموح بسبب التلازم بين المؤلف وكتابه، ولأن الكاتب لا ينتج إلا شبيهه، ومادام بطله جافا هزيلا، فلا محالة أنه سيكون المتميز طبق الأصل للمؤلف، وهذا التناقض لا يمكن إلا أن نفسره بأن الإبداع المتميز يتحقق فقط من خلال مسايرة النموذج، لكنه لا يريد أن يسير عليه بل يعمل على تجاوزه وخرقه حتى يقدم لنا إبداعا لا نظير له، وهو بذلك ينطلق من داخل المعيار، وبما أنه يقدم شخصية غير متواضع عليها فإنه يشك في قيمة إنتاجه، يقول في استهلال مؤلفه الخالد: “إني كنت أود لهذا الكتاب، لأنه وليد عقلي، أن يكون أجمل وأروع وأظرف ما يمكن تخيله، بيد أني لم أقو على مخالفة نظام الطبيعة الذي يقضي أن يلد الشيء شبهه.”
ومتأكد من جفاء المتلقي، وهذا الشعور المتناقض يبين بجلاء أسطورته الشخصية، ألا وهي إبداع نص لا مثيل له، وبذلك سيقدم مفهوما جديدا للكتابة والبطولة تتجسد فيه قيم ودلالات مغايرة.
إن دون كيخوته، ميتانص ثقافي بامتياز، وسعيد يقطين في الرواية والتراث السردي يقدم لنا تعريفا للميتانص كونه: “البنية النصية التي يعلق بواسطتها النص السابق في النص اللاحق، وتأتي البنية النصية في النص الروائي مستقلة يقيمها مع النص الروائي في علاقة نقدية”، فدون كيخوته قارئ جيد للتراث السردي والثقافي المهيمن في عصره، لكنه رأى استمرارية ذلك النمط، لم يعد له مبرر، وجسد ذلك بصورة عملية في تأليفه لمؤلفه “دون كيخوته”، الذي يعتبر نصا جديدا بكل المقاييس، وهذا الموقف شبيه بموقفه من المؤسسات والخطابات المتصلة بها؛ إذ قدم موقفه النقدي من الكتب السابقة، وشخص ذلك بصورة عملية في تأليفه لمؤلفه دون كيخوته، الذي يعتبر نصا جديدا بكل المقاييس، وهذا الموقف شبيه بموقفه من المؤسسات والخطابات المتصلة بها؛ إذ انتقد كل موقف من الخطابات من روايات الفروسية وأبطالها، ومن الشعر الذي تحفل به المؤسسات التي كانت تساند وتشجع ذلك، ومن اللغة إذ نجد ثربانتس يتخذ مواقف نقدية باللغتين اليونانية واللاتينية ويدعو إلى الكتابة بالإسبانية.

إنه لا يختلف عن بطله، في التهامهما للكتب، إلا أنه كان مبدعا مقت المحاكاة، معارضا وناقدا على عكس بطله، وهذا سر نجاحه في تحقيق أسطورته الشخصية، كونه قدم نصا مغايرا لما سبقه على حد تعبيره: “نعم من أجلي أنا وُلِد دون كيخوته، وأنا وُلدت من أجله، لقد عرف كيف يفعل وأنا عرفت كيف أكتب، وكلانا واحد”، ولعل هذا ما عكس بطله الذي لم يحقق أسطورته الشخصية.
وعليه، فرواية دون كيخوته لـثربانتس، حبلى بما يمكن أن نطلق عليه تمظهرات الخيال الأسطوري، لقد خرجت من رحم التصورات الأسطورية ومن الفلكلور ومن روايات استلهمت الضحك، كعنصر أضفى عليها طابعا خاصا، أغناها بالرموز المكثفة كأقنعة الضحك الشفافة الأكثر مباشرة، لقد كانت غاية ثربانتس وتعريجه على هذا البعد الأسطوري الممزوج بالخيال، المتمظهر في أعلى مستوياته والمقترن بالذاكرة، القدر الكبير الذي أحدثه ثربانتس في نفسية ومخيلة القارئ، الذي لم تكن الآثار الأخرى قادرة على التسرب والتوغل بالشكل الأكبر حافزية إلى مخيلة هذا المتلقي، لعالم أسطوري حافل بالعجيب والغريب، والبحث عن عالم مثالي لتحقيق أسطورة شخصية باتت الحافز لدى بطل روايته دون كيخوته.

إن الرواية بجزئيها وفصولها الأربعة والعشرين، هي بناء ساهم في خلق دهشة المتلقي الذي لمس فيه الشيء الكثير عبر طريق السرد، وتفعيل الأحداث وما صاحبها من أوصاف، وتعليقات، وتذكرات، واستطرادات، وحوارات وتوهمات، وما زادها حسنا، تلك المحركات التي مدت الرواية بالحياة الأدبية، محركات من قبيل الارتجال، والجنون، والسخرية، والحلم، والتوهم، والحيلة، والخداع، والتنكر والعنف.
هذا الجنون لم يحير متلقيه القديم فحسب، وإنما حير كل من فتح رواية ثربانتس، محاولة منه لفهم مصدر هذا الجنون اللامعقول، وقبل الختم كان لا بد من طرح الأسئلة التالية حتى يتسنى لنا إدراك ولو الجزء القليل من هذا الجنون، فإلى أي حد كان ثربانتس يهدف ببطله هذا إلى تحقيق ما يريد؟ وكيف السبيل إلى فهم وتفسير جنون “دون كيخوته”؟ أذلك لأن ما هو منتقد فيه ومنعوت بالغلط هو جنون خالص سيحتفل به الآخرون باعتباره علامة على التمييز والتفرد، وشهادة على التفوق الخلقي والشخصي ممتنع على النقد والاستهزاء؟ وهل عدم تحقيق أسطورته الشخصية كان يهدف من خلالها ثربانتس وكما علمنا إنهاء روايته حتى لا يبقى متبوعا بأقلام النقاد؟ أم أن هدفه كان غير ذلك؟

1xbet casino siteleri bahis siteleri