بين أحضان جبال الأطلس

بعد مرور خمس سنوات من الحياة الجامعية الملآى بالصعاب والعراقيل، شاء القدر أن نفترق وأن تبدأ كل واحدة منا بشق طريقها نحو مستقبل مبهم، نحو مستقبل كنا نراه في سنواتنا الجامعية الأولى بعيد الوصول، بعيد المنال، لا يستحق التفكير المعمق أو المعقد، أخذناه على محمل الهزل، ظانين أن السنين لا تزال أمامنا لنفكر فيه على أكثر من مهلنا، تفكير ظل في لائحة الانتظار وما أدراك ما لائحة الانتظار في بلد كل الأمور فيه مؤجلة، إنه إرثنا الذي لا يفنى، إنه الجرثومة التي لا يمكننا استئصالها، لعلنا وقتها جعلنا التفكير في مستقبلنا قيد الحصول على شهادة جامعية محترمة، معترف بها تضمن لنا لقمة عيش كريمة، شهادة تحفظ ماء وجهنا أمام مجتمع يبجل الشواهد ويصغر العقول.
لقد كانت سنوات طيش مرت تباعا، لم نحس بمضيها إلا عندما أفقنا على واقع تركنا للسنين فيه حرية تحديد المسار والمآل، بدون اتخاد أي حيطة أو اعتماد أي خطة بديلة لتجاوز الأزمات، حالنا كحال فئة كبيرة من الشباب، نعشق الدقائق الأخيرة المفعمة بالتهور والأخطاء الفادحة، أخطاء مجمل نتائجها وعواقبها لا تكون بالحسبان، نتائج لا نحس بأثرها إلا عند فوات الأوان، عندما نصير حبيسي البيوت، كأي غرض مركون بزاوية في غرفة ما، لا يسمع له صوت أو أنين، وحدها النظرات التي تحكي قصة حياة، قصة ندم وألم.
نظرات رمقتها في أعين كثر، إلا أنها كانت تبدو جلية بشكل كبير على وجه ومحيا رفيقتي التي لم أعتدها يوما على هاته الحال، فتاة في ريعان شبابها اختارت أن ترتمي بين أحضان المجهول، وتخوض غمار مغامرة جديدة محاربة بها وحش التهميش والبطالة، لقد اختارت أن تغوص في عالم تجربة لم تتوقع يوما أن تعيشها، ضاربة عرض الحائط بروتوكول الشهادة الجامعية العليا، بالرغم من قداسة وظيفتها الجديدة إلا أنها رحلت بها إلى عالم آخر وبيئة أخرى، لقد اختارت مهنة التدريس في شقها الأول أو ما يعرف بالمرحلة الابتدائية.

مقالات مرتبطة


إنها مهنة شريفة تُرفع لممتهنيها القبعات، إلا أن المشكلة لم تكمن يوما في المهنة بحد ذاتها بل في دوافع اختيارها، خاصة بالنسبة لرفيقتي، دوافع اقتصادية-اجتماعية محضة، تنهش القلوب قبل الجيوب، دوافع لخصتها صديقتي في ذريعة أطربت بها مسامعنا لأيام، إنها القولة المأثورة التي أصبحت تظهرها لنا من العدم عند بداية أي حديث عن الوظيفة الجديدة، قائلة: “اللهم العمش ولا العمى”، جملة لَخصت الكثير من المعاني وأخفت الأكثر.
لم نشأ يوما أن نَلُمها على اتخادها لقرارها ذاك، بل حاولنا جاهدين الرفع من رباطة جأشها، فالله وحده الأعلم بما يدور في عقلها من أفكار متضاربة ووَساوس مختلفة، لم نرد أن نزيد الطينة بلة، فاكتفينا بالتشجيع والمساندة مترقبين ما ستؤول إليه الأوضاع في المستقبل القريب، مستقبل سرعان ما أتى على هيئة قرار التعيين الذي شمل المنطقة التي ستُدرس بها، أتى على حين غرة، أتى ليهدم علينا كل ما بنيناه لأيام من الدعم النفسي والتحفيز المعنوي، لقد كانت منطقة جَهِلَتْ حتى موقعها في الخريطة، منطقة احتضنتها جبال الأطلس الشاهقة، وما أدراك ما مناخ جبال الأطلس في الشهور الباردة، وهي المسكينة التي كانت تَزْرَقُ يداها في مناخ ساحلي فماذا سيحصل لها بربكم في مناخ جبلي؟
هزِيلةُ البِنْية هاته تركت زمام الأمور مرة أخرى للوقت وفوضت أمرها لخالقها علها تلقى الرشاد، ذهبت بثقة مهتزة تواجه واقعا مبهما، آملة أن تسير كل الأمور أو معظمها فقط بشكل جيد، أفكار شتى راودتها وهي في طريقها إلى وجهتها، علامات استفهام كبرى ازدادت كلما اقتربت من نقطة الوصول، إنها أول مرة ستكتشف فيها هذا المجال، للوهلة الأولى علمت جيدا أن مهمتها لن تكون بالهينة، وأن الصبر هو سلاحها ما دامت قد اختارت شق هذا الطريق بالذات دون غيره.
لقد كان من الصعب أن تتأقلم مع هذه البيئة الجديدة في الأسابيع الأولى، إلا أن كرم الساكنة وحسن ضيافتهم هون عليها ولو القليل من شبح الوحدة، بالرغم من بساطة عيشهم وجماليته إلا أنها اكتشفت تلك الهوة الفاصلة بين ما عاشته سابقا وما تعايشه الآن، لقد اكتشفت واقعا هشا كانت تعلم عنه القليل، عاينته بأم عينها، أقسام غير مجهزة بأبسط الوسائل والأدوات والتي تعتبر منطقيا من الضروريات (خزانات منزوعة الرفوف والأبواب، وأقسام بدون نوافد أو أبواب وسقف هش قابل للسقوط في أية لحظة) وسبل مواصلات هي الأخرى لا حديث عنها، لكونها تعد على رؤوس الأصابع نظرا لصعوبة التنقل بمثل هاته المناطق، صعوبة تفرضها طبيعة تضاريسها الوعرة (انحدارات قوية ومسارات ضيقة…)، والتي تزداد صعوبة كلما اقترب أو حان فصل الشتاء.
يا لسخرية القدر، بعد سنين من التهور واللامبالاة أصبح الذهاب فقط للمرحاض – الذي يبعد عن مكان سكناها بما يقارب خمس عشرة خطوة – في ظلمة الليل وحده موضوعا يستحق التفكير المطول، تفكير أزاحته دجاجة أحد الجيران، التي صارت تجد تحت سرير صديقتي دفئا لا تجده في الخارج، وجدت الدجاجة المسكينة الأمان عندها ولو تعلم أن صديقتي هي الأخرى في أمس الحاجة لونيس يشعرها بنوع من الأمان حتى ولو كان في صرصور فما بالك بدجاجة، على العموم وبطريقة أو بأخرى لقد ساعدتا بعضهما بدون قصد، فقد كانت صديقتي تستفيق أحيانا لتجد بيضة تحت سريرها وتأخذها وتخزنها لوقت الحاجة رغم شكها الكبير حول موضوع أحقيتها بها لكون الدجاجة ليست ملكا لها.
نعم؛ لقد مرت بإكراهات لا تعد ولا تحصى، جعلتها تتخبط بين فكرة الاستسلام والاستمرار، جعلتها تدور في متاهة كان من الصعب أن تخرج منها، إلا أنها في نهاية المطاف تخطتها بعزيمة صلبة، وحولتها لقوة دافعة تحفزها على الاستمرار إلى ان وصلت إلى ما هي عليه الآن، لقد جعلت منها امرأة أخرى، أكثر صلابة وقوة، أكثر قدرة على مواجهة صعاب الحياة، كما أنها ومع مرور الوقت وجدت ذاتها في تلك العيون الصغيرة التي تراقبها بتمعن وهي تلقي درسها، أعين تزين وجوها تحمر من الخجل كلما مدحت واحدا منها، نعم؛ لقد وجدت المعنى الحقيقي لعملها، لقد أحبته بصدق ولم يعد فقط مصدر رزقها أو مهربا لها من كلمات أو نظرات المجتمع، لقد أصبح شغفا لا يحد ولا يمحى.
لقد علمتنا درسا مهما، كَمُن في أن الحياة لا تأتي دوما بالصورة التي نطمح لها أو نتطلع إليها، بل تأتي أحيانا مشحونة ومرفوقة بصعوبات ومشاكل قد نعتقد أنها خلقت بدون حلول، خلقت لتخضعنا وتجعلنا نستسلم من المعركة الأولى، إلا أنها لم تأت لتستمر بل أتت لترحل، بعد أن تخلف وراءها ذاتا أعظم مما كانت، أتت لتترك بصمة في نفوسنا، لتجعلنا أنضج وأصلب، لأن الحياة لم تخلق يوما لضعاف النفوس، بل خلقت لأصحاب العزيمة والصبر الذين كلما قست عليهم الظروف وأرْدَتهم أرضا وجدتهم يقومون من جديد ، بنفس وروح من حديد، أشخاص خلقوا ليتأقلموا مع مختلف الصعاب، لم يولدوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب بل شمروا عن سواعدهم وأظهروا للعالم مدى قوتهم وعظمتهم، لا مكان ولا زمان بإمكانه إعجازهم أو إخضاعهم، فبشرى لهم و يا أسفاه عمن سِواهم، إنها واحدة منهم، لكن تجربتها تعتبر تجربة واحدة من تجارب كثيرة، تجربة فتاة في بداياتها وجدت بين أحضان جبال الأطلس مقرا ومفرا.

1xbet casino siteleri bahis siteleri