هل نلوم الذين هربوا من الدين للتحرر من العبودية؟

التاريخ مليء بالتصفيات من أجل السلطة والمال، من يملك القوة يطغى، وإلى الآن لا زلنا نعيش في غابة كبيرة تَدَّعي التحضر واحترام الحقوق، والواقع أن المال فوق الإنسان، القوي يأكل الضعيف وكل القضايا تباع وتشترى. أغلب الناس، وعلى مر العصور، يخضعون ويرضون بالذل والظلم من أجل الأمن والبقاء على قيد الحياة، وكأن هذا سيضمن لهم الخلود وسيكفيهم الشر، مُضَحيّن بأبسط حقوق العيش الكريم، ساكتين عن التعبير عن الرأي، تاركين قرار تحديد مصيرهم لغيرهم، ولو كان أحمقاً أو خائناً أو غير مبالٍ بمصالحهم، إلا قلة منهم التي يأتي على يدها التغيير بعد عناء، أو ربما، بعد الموت!

جاء الإسلام لردع الظلم وإزالة العبودية {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}، القرآن الذي بأغلبه قصص صورت أحوال أقوام سبقونا، كانت لقصة موسى عليها الهيمنة، تحكي مواجهته الحكيمة لطاغية استضعف شعبه باسم الدين، أو القداسة. قصة تتكرر في كل زمان ومكان وإن اختلفت المصطلحات، فحقت لها الأغلبية في القرآن. ذُكرت قصة الغلام وأصحاب الأخدود، قصة طالوت وجالوت، وقصص لأشخاص استَعلوا وظلموا، ليقول القرآن للناس ما من إله غير الله لتخشوه وأنه إليه ترجعون، يأمرهم أن يكونوا كرماء كما كرَّمهم، أحراراً كما خلقهم، ألا يبتغوا عند غيره العزة لأن له العزة جميعاً، أن يتمسكوا بأخلاقهم ومبادئهم، أن لا يركنوا إلى الذين ظلموا فتمسهم النار وما لهم من دون الله من أولياء ثم لا ينصرون.

قصص تنتهي بنصر المؤمنين بقضيتهم لصدقها، وإن قُتّلوا وقُطّعوا وصُلبوا في جدوع النخل، فالله خير وأبقى، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} ليختم الله كل قصص رسله بقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. تَم استغلال الدين وحرفت مفاهيمه ومعاني آياته، أُخرج عن سياقه، ووُجه عقل الناس بسبب تقديسهم العلماء واحترامهم لعلمهم إلى الرضوخ والطاعة، وصارت معالمه ومقدساته أهم من النفس البشرية، والله الذي جعل حرمة دم المسلم أعظم من حرمة الكعبة!

مقالات مرتبطة

جُعل من الدين أفيونا للشعوب وحُول إلى أداة مغيبة للوعي، كالذي انتقده كارل ماركس، إذ اعتبره زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، لأنه يقلل من معاناة الناس المباشرة ويزودهم بأوهام طيبة، ويقلل من طاقتهم واستعدادهم لمواجهة الحياة الجائرة عديمة القلب والروح التي أجبرتهم الرأسمالية أن يعيشوها. ناسين مبدأ الاستخلاف وعمارة الأرض، منتظرين الفرج من الله ولو أن زمن المعجزات قد ولى، فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأي فساد في العالم فهو بما كسبت أيديهم والقدر منه براء، وما أصابهم من خير فمن الله وما أصابهم من شر فمن أنفسهم، كما ذُكر في كتابه.

لا لوم على الذين تركوا دينهم من أجل التحرر من العبودية واللامنطقية، بعض مما حصل مع الكنيسة بدأ يعيد نفسه في عالمنا العربي والإسلامي للأسف. فمن الطبيعي أن يشكك الإنسان في دين لا يوافق فطرته، لا يحترم عقله، يمنعه من التفكير والسؤال والتعبير ويجعل منه آلة لسيده، يقيد حريته التي خلق بها، وذلك ما يفسر أحد أسباب ارتفاع نسب الإلحاد والبعد عن الدين عندنا. علماء باعوا قضيتهم مقابل ثمن بخس لا يضاهي جزاء الآخرة، ابتلاهم الله ليختبر إيمانهم وفتنهم ليعلم اللذين صدقوا منهم وليعلم الكاذبين، وبسبب خوفهم آثروا نجاتهم في الدنيا وفضلوا دار البلاء، فانتشر الفساد وصار في كل الأرجاء، من قمة الهرم إلى أسفله، وساءت أخلاق الشعوب نتيجة قهرها واستبدادها، فالشعوب المقهورة تسوء أخلاقها كما أقر ذلك ابن خلدون.

ما كان لأحد أن يعلو في الأرض لولا صمت الناس ورضاهم، فهم أول المسؤولين عن الفساد، وكما أكد ألبرت أينشتاين، فإن العالم لا يتحطم بواسطة الأشرار بل بواسطة من يشاهدونهم دون أن يفعلوا شيئاً. وكم دمر الله من قرية كاملة لرضا قومها أو سكوتهم ولو الظالمون فيها قلة. فمن يصمت عن قول الحق ينصر الباطل ويمهد له الطريق، فيا ليتنا نعتبر. وجب التفكر واتباع الحكمة والثبات والصبر، فالله قد يسر كتابه للذكر فهل من مذكر، وخاطب العقل والفطرة، ووعده {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، وحاشاه أن يُخلف وعده وهذه سنته في الكون بشهادة التاريخ.

منديلي

1xbet casino siteleri bahis siteleri