دوامة الجدال والنقاش

هل صادف أنّك قطعت علاقتك مع أحدهم لأنه يجادلك دائما؟ أو لأنه يقاطعك كلّما تحدّثت أو أنّه لا يستمع لك أصلا؟
إذا كانت إجابتك نعم! فلست وحدك.
كلّنا صادفنا هذا النوع في حياتنا، وسنظل نصادفهم أيضاً أينما ذهبنا أو حللنا حتى ولو ارتحلنا إلى قطب الأرض الشمالي.
وربّما، قد نكون منهم ونحن لا ندري!
كيف ندرك إن كنّا نحن أساس المشكلة وليس هُم؟ إن كنّا لا نعرف أصلا معنى فنّ التحاور والكلام، وكأنّك تسألُ أعمى عن زرقة البحر وتنتظر منه جوابا شافيا.
إذ إنّ معرفة الشيء أساس فهمه، نعرفه أولاً، ثمّ نغوص في تفاصيله، فنتفكّر ثم نجيب عن تساؤلنا الذي طرحناه أوّل الأمر.
أيّنا أساس المشكلة!
هذه المشكلة التي تحتاج دراسة ووعيا وليس هربا وتجاهلا!
مشكلتنا إذاً هي فهم الحوار وأسسه، فهمه على أنّه فن كباقي الفنون الأخرى، فن نبيل لمن يحسنه، فن راقٍ لمن يتقن أساليبه، فن جميل بالمعنى الحرفي لذلك.
كلمة تعني “الرجوع” في معناها اللغوي، ونقصد بالرجوع هنا ذهاب الكلام ثم رجوعه بسلاسة بين طرفي الحديث، آخذا بذلك هدف الوصول إلى نتيجة مشتركة بين القطبين المتحاورين أو اختلافا راقيا بينهما.
أعتبره أصل فنون الكلام؛ إذ من دونه لا نعلم إلى أيّ وجهة نحن مبحرون، وكأننا نقود سفينتنا في بحر هائج نحو المجهول من دون بوصلة ترشدنا، نفتقده في اتصالاتنا كافتقاد الجنين لحليب أمه فهو بذلك يبكي ويصرخ، وهكذا نحن ببساطة عندما نتحاور.
نحن نتحدث في فوضى، نتكلم فقط ونقول أشياءً قد نندم عليها لاحقا، نقول من دون علم حتى ولو لم نقصد ذلك، وللأسف لم نتعلم من نبيّنا الكريم صلى الله عليه وسلم، أنّ من يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه أن يقول خيرا أو ليصمت.
لم نتعلّم من سلفنا الصالح أنّ للكلام قواعده وضوابطه، فاللسان هو العدو لو لم نصُنه!
كلّ محادثاتنا فوضى لا تحكمها قواعد كقواعد اللغة، ولا تضبطها ضوابط تهذّبها فتجعلنا بها نفيد ونستفيد؛ إذ دائما ما ننسى النيّة من حواراتنا، النيّة من الحوار التي نفقدها بعد بضع كلماتٍ لنخرج عن صلب الموضوع ونصير نتنافس في أيّنا أعلم من الآخر.
حسب دراسات أجريت مؤخرا وُجد أنّ أغلب الرجال يتحدثون عن إنجازاتهم الشخصية عندما يحاورون، وهاته الميزة التي ولدوا بها أو اكتسبوها! حقاً لا أعلم بعد، تسمى “التنافسية”؛ حيث يفرض كل رجل نفسه ومنطقه في مجموعته ليظهر كذكر مسيطر بهذه الطريقة، فأعلمهم هو أفضلهم، هكذا نظن.
أما النّساء فلا أريد أن أدخل في متاهات ثرثراتهن والتّحدث عن بطولاتهن أو بطولات أبنائهن وبناتهن وبنات الأخ وبنات الأخت والقائمة تطول…
ومن المجتمع ندخل أسرار البيوت والأُسر، فنجد أسوء ممّا ذكرنا بكثير، فالحوار الأبوي الغالب هناك هو ما دمّر شخصيات أطفالنا وكان سببا لأغلب المشكلات النفسية التي تنعكس بالسلب على مجتمعاتنا. صار الحوار إذاً جدالا ونقاشا حادا، وجلب معه الأحقاد والعقد النفسية التي كنّا سنكون في غنى عنها لو أنّنا تعلمنا كيف نحاور من البداية.
أسس الحوار البنّاء:
يمكن أن يسألني أحدهم إن كان هناك حلٌّ سحريٌّ للمشكلة؟ فأقول: في رأيي نعم! هناك طريقة فعالة وسحرية، كانت وصفة ذكرها مانديلا في مذكراته؛ إذ كانت أساس نبوغ والده ثم نبوغه من بعده.
الوصفة هي الإنصات! نعم ببساطة الإنصات، دون التفكير في المقاطعة أو الحديث! لماذا ذكرت الإنصات أولا؟ لأنه أساس نجاح الحوارات. لكن للإنصات أيضا قواعده! إذ إنّ أكبر خطأ قد يضر بالإنصات نفسه هو أنّنا ننصت لنرد لا من أجل أن نفهم أو ننصت حقّا، فلو تعلمنا إذاً أنّه لو أنصتنا حبّا في الانصات والفهم لكان ذلك خيرا لنا؛ لأن تحدثنا عن أمور نعرفها أو عن إنجازاتنا البطولية لن تضيف شيئا لمحصلتنا الفكرية، عكس الإنصات الذي يجعلنا نرى عوالم غامضة ونسمع أشياءً جديدة ربما ستضيف لحياتنا المزيد من العلم والمعرفة، ولذا كانت نصيحة نيلسون مانديلا الذهبية عن كيفية اكتسابه كل هذا الاحترام بالصمت وحسن الإنصات خير هدية تُهدى يوما.
وقد لخّصت لكم ما درّبت به نفسي لأتقن الإنصات ولو لم أحترفه بعد، وهي قاعدة تدعى بقاعدة عدّ الثواني الخمس؛ بحيث كلّما حاورت أحدهم وجاءتني فكرة أو كلمة لأقولها، عددت حتّى خمسة، فأجد أنّ محاوري لا يزال لديه كلام ليضيفه، يمكنك أن تجرّبها ثم أخبرني عن النتيجة.
وما تعلّمته من ذلك كان الحضور، أي أن أكون حاضرا بجسدي وذهني معاً، عساي أخرج بأمور لا أعرفها من تحاوري.
قال رجل العلوم الأمريكي بيل ناي: “كلّ إنسان تلتقيه يملك شيئاً لا تملكه” فماذا لو أخذتُ هذا القول وطبّقتُه في حياتي؟!
هل تعلمون ماذا يمكنني أن أجني من ذلك؟ الكثير يا سادة. أضحيت أنتظر الطرف الآخر حتّى ينهي حديثه قبل أن أقول ما لدي، وهكذا صرت أهوى الإنصات إلى الآخرين بدل التكلم عن نفسي وعن إنجازاتي، فالبشر يحبون التحدث عن إنجازاتهم وتجاربهم، فقط اسأل وأصت بتركيز.
فلم إذاً أتكلّم عن شيء أعرفه ما دمت لم أُسأل عن ذلك أصلا؟ لم لا أنصت ما دمت أستفيد؟  فلماذا لا ننصت يا ترى؟
أظن أنّ الأمر يبدأ من البيت؛ لأننا تربينا هكذا وهكذا وُرِّثنا عدم الإصغاء لنورثه بدورنا لأبنائنا، أو أننا لا نعرف معنى الإنصات فلذلك نجهله كما ذكرت سابقا، أو أنّه الكِبْر والغرور ولذلك نقوم بتسفيه واحتقار أو تصغير كلّ من خالفنا الرأي فلا نفتح آذاننا لما سيقوله، وقد تجد البعض ممن يظنون أنهم يعرفون كل شيء لا ينصتون للآخرين من باب جنون العظمة واكتفائهم بما حققوه من علوم.
ومن لا ينصت يقاطِع، وقد لخصت بعض النقاط من تجاربي عن أسباب المقاطعة التي أراها نابعة إمّا عن حسن نية وهو التوريث وجهل حقيقة جريمة مقاطعة أحدهم وهو يتكلّم، أو بسبب اختلال نية الحديث فتجد نفسك تحدّث أحدهم عن رأيك في شيء ما، فيحدثك عن رأيه في فريقه المفضّل، لم يفهم سؤالك فغابت النية وحاد الحوار عن أصله، أو أجدها في اختلاف الرأي فيقاطعك لإثبات وجهة نظره وكان أولى له أن يفتح مدوّنة ليدوّن فيها آراءه الشخصية بدل ذلك الجدال كله.
وأخيرا، الأمر الشائع في كلّ المحادثات، المنافسة، وما أعني بها هو حبّنا للتحدّث، التقليد والتباهي، وإن لم تصدقني فحدّث أحدهم عن تجربتك مع هواية جديدة، وستجده يحدثك عن هواياته أو هوايات أقاربه ومعارفه.
وصدّقني إذ أقول لك أنّ كل تجربة تختلف عن الأخرى، والمحادثات لم تكن يوما سبيلا للمنافسة في التجارب والإنجازات.
والحل؟
لا تسألني لم لا ينصتون أو لم يقاطعون؟ إنهم غير متعودين على ذلك فقد تعودوا المقاطعة وصارت لهم عادة. غاب الحوار البنّاء وغابت معه الحكمة، وحصدنا بدل المعرفة والاحترام الجدال والكره والأحقاد. فمتى نتعلم كيف ننصت لبعضنا البعض من أجل علاقات صحية، ومن أجل أن نحب ونحترم بعضنا البعض؟
وأختم حديثي بقول مأثور لبوذا: “إن كان فمك مفتوحا طوال الوقت فلن تتعلّم شيئا”. سنتعلم إذاً عندما نحقق التوازن بين الكلام والإنصات، وندرّب أنفسنا على ذلك لنستمتع بالاستماع لقصصٍ وتجاربَ لم نرَ ولم نختبر مثلها، وحينها فقط سنُصدم مما فوّتنا على أنفسنا من جواهر.
1xbet casino siteleri bahis siteleri