قبل 20 سنة … تزوجت بالطب

لعل من أكبر المشاكل التي يواجهها نظامنا التعليمي مشكل غياب التوجيه السليم، فبعد أن يدرس الطالب لمدة اثني عشرة سنة، ويحصل على الباكالوريا، يجد نفسه في مفترق الطرق، لا يدري ماذا يقرر؟ وفي أي تخصص سيكمل دراسته العليا؟ وما هي الآفاق المهْنية التي يتيحها له هذا التخصص أو ذاك؟ وما أسعدَ حظّاً هؤلاء الذين تتضح لهم الرؤية مبكراً، ويتجنبون تِيهَ هذه المرحلة باختيار التخصص الذي يحبونه دون عناء! وقليلٌ هُم.
في هذا المقال، سأحكي لك، أيها القارئ الكريم، عن تجربتي في دراسة الطب، وكيف تم اختياري له؟ وما الذي يمكنُ أن يساعدك في اختيار دراسة تخصص بعينه أو إنشاء مشروع معين؟ وغنيٌّ عن البيان أن هذا المقال، نظرا لتعلقه بموضوع الطب، سيكون أكثر فائدة لطلبة الطب، وإن كنتُ أرجو أن يكون مفيدا لغيرهم أيضا.

بدأت الحكاية في سنة 1999، بعد أن حصلتُ على الباكالوريا، ومن الطبيعي أن مشكل التوجيه في ذلك الوقت كان أكثر انتشارا، لغياب المصادر التي يمكن استقاء المعلومات منها، فلا نكاد نعرف إلا القناتين الأولى والثانية، وبعض القنوات الأجنبية التي لم نكن نعرف عن لغاتها شيئا؛ وحيث إن المصادرَ التي يمكن للطالب أن يستقيَ منها معلومات قد تفيده في اختيار ما يناسبه منعدمةٌ، فلا يبقى أمامه إلا المعرفة الشفهية المُشوشة، التي كان يتلقاها من بعض أساتذته: “إذا حصلت على باكالوريا بمعدل جيد يمكنك أن تختار الطب، الهندسة، …”؛ وللأسف، كان الطلبة يتخذون قراراتهم بناء على الحدس والغريزة، لا على معطيات موضوعية.
في الواقع، من النزاهة أن أعترف أنني كنت محظوظا، ولم أواجه هذا الوضع؛ ذلك أن والدتي كانت طبيبة، وقبل أن أصل إلى مرحلة اتخاذ القرار، وقع أكثر من حادث، جعلني أعي مجال الطب وأدرك أهميته. ومن هذه الحوادث أننا، ذات يوم، كنا في سفر، ووقعت أمامنا حادثة مروعة، هرولت والدتي لتقديم الإسعافات الأولية لضحايا الحادث. ولاشعوريا وجدتُني بدوري وسط الناس أحاول المساعدة، وأقدّم ما يمكنني تقديمه. نعم، في تلك السن الصغيرة، لم أشعر بالرهبة أو الخوف، بل حصل العكس: شعرت بنوع من الفخر والاطمئنان، وبعبارة أدق: شعرتُ أنني في مكاني الطبيعي. وربما كان هذا الحادث بالضبط من بين الأسباب التي جعلتني أختار ولوج كلية الطب، ومتابعة دراستي العليا في تخصص الطب.

ما يميز مهنة الطب أنها تُضْفي معنى على وجودك وحياتك، تُشعرك أن لديك ما تقدمه للناس. وحين تختار مجال تخصصك بناء على هذا الوعي، لا محالة ستنجح فيه. ويؤسفني أن الكثير ممن تتبعت مسارهم، ممن لم يكن اختيارهم على هذا الأساس، لم يحققوا ذلك النجاح الذي توقعوه؛ لأنهم، ومنذ البداية، لم يختاروا الطب لأنهم يحبونه أو يجدون ذواتهم فيه، بل لأسباب أخرى تتعلق بالعائلة والمال والسمعة الاجتماعية.

وقد تناول سيمون سينك في كتابه الذي نشره بعنوان: start with why هذه النقطة: لماذا نقوم بما نقوم به؟ بالشرح الوافي، من المفيد العودة إليه في هذا السياق.

كما كان متوقعا، بدأتُ دراستي في كلية الطب بحماس، درستُ السنة الأولى والثانية. وفي السنة الثالثة لم أعد أحضر للدروس باستمرار، كنت مُحبطا من نظام الدراسة، فاكتفيتُ بالحصول على الدروس وحفظها في البيت ويتكلل الامر بالنجاح! كيف يمكن أن أُطيق الحضور يوميا إلى الكلية، لا لشيء إلا لكتابة أمور لا تفهمها، بطريقة لا تفهمها، وتعود، في آخر اليوم، إلى المنزل لحفظها…لتحصل، في الأخير، على نقاط عالية؛ فقط لأنك تتمتع بذاكرة قوية!
مرت السنوات عجلى، وفي السنة السادسة، أتاني صديقي خالد، وهو طبيب ممتاز، وكان الوقت ليلا، واقترح علي، بإلحاح، الذهاب للحراسة. ذهبت معه، وهناك عرض عليّ حالة مريضة، فلم أجد جوابا ، حينها وجّه لي كلاما أيقظني من سُباتي، وكأنه أنّب ضميري. قلت له معترفا بصدق كلامه: “وماذا عليّ فعلُه؟” فكان جوابه: سنستعد للمعادلة الكندية. ومن حسن حظي -مرة أخرى- أن والديّ أرسلاني للمركز الأمريكي، حِرصا على تعليمي اللغة الإنجليزية.
كان من الطبيعي أن أكون متخوفا في البداية، وأتذكر أنني قلت في قرارة نفسي: “إذا كانت مقررات الطب في المغرب بكل ذلك التعقيد الذي أعرفه، فكيف سيكون الأمر هناك؟” لكنني تفاجأت حين اكتشفت أن مقرراتهم أسهل بكثير من مقرراتنا هنا. لسبب بسيط، هو أن نظام الدراسة عندهم قائم على تنمية المهارات لدى الطالب، والامتحانات تُوضَعُ وفقا لذلك، لا لتقويم قدرات الطالب على الحفظ. نظام الامتحان كله ملخص في كتاب: FIRST AID ….”.

في ظرف عامين فقط، ذهبت إلى صديقي وقلت له: اسألني أي سؤال تريد الآن في الطب، وسأجيبك. سنتان فقط كانتا كافيتين للإحاطة المحترمة بتخصصي؛ لأن المقررات وُضعت على أساس علمي وبيداغوجي متين.
إن الحصول على المعادلة الكندية كان يتطلب مني أن أنجح في خمسة امتحانات، نجحت في الأول، وكان في بيروت، ونجحت في الثاني، وكان في كندا، أما الامتحان الثالث فكان مكونا من جزأين، اجتزت الأول في مونتريال، والثاني في أوتاوا، ولم أنجح فيه، كان صعباً للغاية. والقانون يقتضي في نظامهم ان عدم النجاح يعني الإقصاء النهائي، ومع ذلك، لم أندم أبدا على هذه التجربة، مع أنها كلفتني أموالا كثيرة؛ لأنها، ببساطة، كانت مميزة بكل المقاييس وشكلت لي استفادة كبيرة، لا على المستوى المعرفي فقط، وإنما على مستوى تنمية شخصيتي أيضا، من طالب في السنة السادسة لا يُحسن شيئا، إلى طبيب ممتاز في تخصصه، حينها أدركتُ ألا شيءَ مستحيلٌ.
واصلتُ دراستي بشكل طبيعي، وبعد عام ونصف قضيتها في بلجيكا طالباً مقيماً، تخرجتُ، وها أنا، اليوم، أشتغل في عيادتي الخاصة طبيبا جراحا بفضل الله ومنّته.

كانت هذه تجربتي في دراسة الطب، قبل عشرين عاما (من سنة 1999 كأول سنة طب بالجامعة إلى  2019). وهي فترة كافية لتتغير الكثير من المعطيات والمستجدات، وإن كانت كبريات المشكلات لا تزال قائمة كغياب التوجيه السليم، سقم المناهج، غياب الآلات وقلة المختبرات…
وإذا كان الخيار الذي واجهنا نحن في أواخر الألفية الثانية وبداية الألفية الجديدة هو انعدام التنوع في الاختيارات المتاحة، وانعدام مصادر المعلومة الموجِّهة، فإن الذي يواجه جيل الألفية الثالثة، وخاصة في هذا العقد الأخير، هو كثرة الخيارات، التي يغدو من الصعب التمييز أو الاختيار بينها.

إن هذا الانفجار المعرفي -والذي كان من المفروض أن يكون عاملا مساعدا على حسن الاختيار- يجعلك في تيه وحيرة يصعب الخلاص منهما بشكل نهائي، ولكن قناعتي أن الشاب الذي يحصل على الباكالوريا إذا كان له هدف واضح -والوضوح هنا يعني الوضوح فعلا- فسينجح لا محالة؛ لأنه يملك وسائل الحصول على المعارف التي يحتاجها، وإذا استثمرها على الوجه المطلوب فلن يكون فشله إلا من باب خرق العادة، وهو أمر مستبعد. فيمكن للطالب اليوم، في كلية الطب أو غيرها، أن يحصل على محاضرات من جامعة هارفارد التي ألقيت في الأسبوع الماضي، ويمكنه أن يُحصِّل معرفة في التخصص تفوق معارف أساتذته في بعض الأحيان.

هناك مقولة جميلة ليوفان هراري مفادها أنه: “في عالم مليء بمعلومات غير ذات صلة، يصبح الوضوح قوة”. إن الوضوح اليوم أصبح يتسم بالندرة الشديدة، حتى في أبسط أمور حياتنا اليومية، ولذلك يزداد قيمةً كل يوم، بفعل التطور التكنولوجي الهائل؛ فحين تفتح الفيسبوك أو اليوتيوب…، تجد الكثير من المواضيع التي لا تهمك بشيء، والكثير من المعلومات التي تستنفد طاقتك لا غير، فما لم تحدد: لماذا تتصفح هذا الموقع أو ذاك؟ سوف تتوه؛ لأن كل شيء يعمل لكي يجذبك، بالتأثير على غرائزك وفضولك. فإذا لم تكن منتبها ستغدو ألعوبة في يد تلك الشركات لاشعوريا، ومما لفت انتباهي في هذا الصدد، تصريح منسوب لمدير شبكة نيتفليكس يقول فيه: “إن منافسنا الأول، والذي يقلقنا حقيقةً، هو النوم” .. إنهم يفكرون في التأثير عليك ومنعك من ممارسة حقوقك البيولوجية، فكيف لو تعلق الأمر بالاختيارات العادية!
قديما قيل: إن أفعال العقلاء تُنزَّه عن العبث، والعبث في بعض معانيه أن تقومَ بالشيء دون أن تدري لماذا تقوم به؟ ومفاد ذلك أن من العقلانية، في حدودها الدنيا، أن تكون أهدافك بالوضوح الكافي؛ ذلك أنك حين لا تُحصّل هذا الوضوح في الأهداف والرؤى فستغدو أسيرا لمزاجك المتقلب، كل مرة تجد نفسك تفعل شيئا مختلفا، وسيكون مصيرك أن تصير شخصا عاديا في كل شيء، ولن تستطيع النجاح والتميز في أي شيء.

وختاما أقول: إن الطالب الذي يُقبل على إكمال دراسته العليا ينبغي أن يكون صريحا مع ذاته، ويقف وقفة لتحديد ماذا يريد بالضبط من حياته؟ وإلى أي درجة سيفيده التخصص الذي سيُقبل على دراسته في تحقيق ذلك؟ فالطالب الذي يختار ولوج كلية الطب عليه أن يكون على وعي بكل التحديات التي ستواجهه، سواء تعلق الأمر بظروف التدريس في كلياتنا، أو بالمقررات المتجاوزة، أو بلغة التدريس -الفرنسية- المتخلفة.

وأنا لا أبالغ إذا قلت: إن دراسة الطب باللغة الفرنسية اليوم أعتبره دون مبالغة  انتحارا علميا، وأن عدم التكييف والتحيين المستمرّيْن للمناهج والمقررات يجعلنا دائما متأخرين عن الركب.
ويبقى تعلم الإنجليزية، ومواكبة التطورات في ميدان علم الطب، ووضوح رؤيتك لما تريد، وعملك الدؤوب على تحقيقه: سلاحك الأقوى، عزيزي القارئ، لتجاوز هذه التحديات. ولْيكن شعارك الدائم قول العلامة علال الفاسي:
كلُّ صعبٍ على الشباب يهونُ *** هكذا همةُ الرجال تكونُ.

1xbet casino siteleri bahis siteleri