من أخطر ما يتهدد حياتنا في هذا العصر هو الوقوع تحت مِقصلة الإحباط وانعدام الإرادة، والشعور بأن ما نقوم به يفتقد للمعنى. ومن تم، يتوجّب للوقاية من هذا الخطر، أن يكون لكل شخص رسالة هادفة يعيش من أجلها. وهذه الرسالة قد تختلف من شخص ٍ لآخر، باختلاف المحيط الاجتماعي والإمكانات المادية والقدرات الذاتية الجسدية والذهنية.
إن تحديد هذه الرسالة قد تكتنفه صعوبات جمّة، وقد يضطر المرء إلى التغيير والتعديل فيها أكثر من مرة، غير أن هذه الصعوبات من طبيعة الأشياء، فلا ينبغي أن تكون باعثة على اليأس أو الإحباط.. سأحاول في هذا المقال أن أدُلك على خمسة أمور، أعتبرها في أعلى درجات الأهمية، قصْدَ الوصول إلى تحديدٍ دقيق لما يجب عليك العمل عليه كرسالة لك في الحياة.وسأبدأ، كعادتي في كل مقالاتي تقريبا، بسرد تجربة شخصية عشتها قبل شهور، لعلها تكون محفزة، وداعيةً لك إلى التأمل واستخراج بعض العبر منها.
قبل أيام قليلة، ذهبت إلى مُعلن كبير، وأعلمته أنني بصدد إعداد سلسلة من المقاطع للتوعية الصحية، وهي تقتضي مني الكثير من الأمور التقنية والرسوم المكلفة…وقد أعربت عن رغبتي في أن يتكلف بالتمويل، فما كان منه إلا أن ألقى نظرة على حسابي على الانستغرام، ليتأكد “هل أنا مؤثر أم لا”! فوجد أن عدد متابعي لا يتجاوز 5K. فقال: “أولا، أنت لست مؤثرا، وثانيا، نحن لا نستطيع أن نستثمر فيك، وثالثا، حتى لو فعلنا، فإن تحقيق ألف أو ألْفي مشاهدة لن تضيف لنا شيئا”.
إن نجاح هذه التجربة ما كان ليحصل، لو تسرّب إليّ الإحباط بعد الفشل في الترويج لها على مستوى عالٍ، أو لو توهّمتُ أن نبلَ الهدف وحده كافٍ لتلقّي الدعم اللازم، وبالتالي تحقيق النجاح بدون أية إكراهات.
ستقول لي، أيها القارئ الكريم: وأين لي بتحديد هذه الأنشطة التي يمكنني الاشتغال عليها بوصفها “رسالة لي في الحياة”؟والنزاهة تقتضي مني أن أصارحك صادقا: إن نسخ تجارب الآخرين يؤدي إلى كل شيء، إلا النجاح، لكنّ هناك أمورا عامة، لعلها من المشترك بين كل الناس، توصلتُ إليها من خلال مجموعة من التجارب، يمكنني حصرها في خمسة أشياء، لو تتبّعتَها من المتوقع أن تُعينك على تحديد مرادك.
أولها: أن تقضي أكبر قدر من الوقت مع ذاتك؛ إن هذه الخطوة على درجة كبيرة من الأهمية؛ لأن غالب الناس اليوم ليسوا فاشلين لأنهم عجزوا عن تحقيق ما يريدون، بل لأنهم يجهلون ما يريدونه أصلا؛ فالاختلاء بالذات يعين على إدراك ما تريده.إن الإنسان المعاصر يعاني من الملل من نفسه؛ لأنه لم يتعلم قضاء جزء من وقته في الخلوة بذاته، جل حياته يُمضيها في العوالم الافتراضية أو النوم أو الانهماك في دوامة العمل التي لا ترحم. وهذه الظاهرة هي وليدة العصر الحديث؛ فالملل لم يكن في يوم من الأيام مشكلا لدى الإنسان. بل إنك حين تقصد منطقة قروية نائية، غالبا ما تجد شخصا جالسا بجانب حائط، لابسا جلبابا رثّـاً وطربوشا، تبدو عليه علامة الوقار والطمأنينة والسكينة. تسأله كيف حالك؟ فيجيبك: “في أحسن حال، أحمد الله وأشكره”. لا يستشعر أية مشكلة في الفراغ أو الخلوة بنفسه، ولا يرى أنه من الضروري أن يكون منشغلا بشيء، لأنه لم ينصهر في هذا الجانب المادي من الحضارة المعاصرة!
قد يبدو لك بادئ الأمر أن هذه الخلوة سهلة ويسيرة، لكنك لا تكتشف صعوبتها إلا حين تحاول، فلو جربت التخلي عن هاتفك لمدة أسبوع ستكتشف كم هو صعب أن تتخلى عن إدماناتك اليومية. ولك أن تتصور فقط أن تبقى منذ غروب الشمس إلى الواحدة أو الثانية ليلا، وأنت لا تفعل شيئا، إلا التأمل والتفكر، أمر، بخلاف ما يبدو، في غاية الصعوبة، خاصة لمن أدمن الأنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. إن تصالحك مع ذاتك من خلال التقرب منها والوعي بها هو شرط ضروري لاتخاذ قرارات صائبة، بحيث يمكن القول: إن هناك علاقة طردية بين مدى تصالحك مع ذاتك، وحجم نجاحاتك في القرارات التي تتخذها.
ثانيها: اعرف مواهبك؛ ولا بد أن تكون صادقا مع نفسك، وتُميِّز بين مواهبك الحقيقية، وبين التي تتمنى امتلاكها؛ فكثير من الناس يُوهمون أنفسهم بأن لهم مواهب وهمية، فيقتحمون أمورا لا تسمح لهم مواهبهم وقدراتهم الذاتية بالنجاح فيها، فيفشلون، في الوقت الذي كان بإمكانهم أن ينجحوا في أمور أخرى تتناسب مع قدراتهم وظروفهم الفعلية. وقد صدق مَن قال: إذا لم تستطعْ شيئاً فدَعْهُ ***وجاوِزْهُ إلى ما تستطيع
لعلك تتساءل في نفسك: كيف أعرف أن لديّ موهبة أم لا؟والجواب أن لا سبيل، سوى أن تجرب، وأن تبادر، بعد أن تعي بذاتك وتعرف ما تريد. وقد بينتُ هذا في مقال سابق عن تجربة الوعي بالذات. قبل أن تعرف موهبتك، اعرف من أنت.
ولعل من سعادة حظنا، اليوم، أنه بفضل تطور العلوم، أصبحت عملية التعرف على ذواتنا ووعينا بها سهلة وممكنة، فهناك اختبار معروف مبني على قواعد في علم النفس، يسمى Briggs Myers يساعدك على معرفة شخصيتك بدقة كبيرة.
الأمر الثالث: هو الانضباط والاستمرارية، أي شيء تريد أن تحقق فيه نجاحا معتبرا، لا مفر من الصبر والمُضي فيه مدة طويلة، سواء تعلق الأمر بالطب أو الكتابة أو الصحافة أو القانون أو أي تخصص آخر؛ إن الانضباط لتحسين قدراتك ومواهبك أمر لا مفر لك منه لتحقيق النجاح المنشود، وإلا كان الفشل والإحباط حليفك. ولك في تجارب اللاعبين الأفارقة المحترفين في أوروبا خير مثال، لماذا يتراجع مستواهم بسرعة؟ ببساطة لأنهم لا يواصلون العمل بجدية، ما إن يصلوا إلى مستوى معين، حتى يُصابوا بالغرور ويتوقفوا عن العمل والانضباط في التدريبات. وبذلك يتراجعون بشكل سريع، في حين تجد من يحرز على الجوائز الفردية لسنوات طويلة.
وختاما، هذه اقتراحات وتوجيهات قد تفيدك عزيزي القارئ، ولكن الأصل الذي لا يجب أن تحيد عنه، أنه عليك أن تخوض تجربتك الشخصية بنفسك، وأن الاستفادة من تجارب الآخرين سيظل ناقصا وغير كافٍ ما لم تبادر أنت شخصيا لخوض تجربة من شأنها أن تعلمك ما لا تستطيع تعلُّمه من تجارب الآخرين.