رجاء لا تلدوهم لتقتلوهم!

يقف ممسكا بجلباب أمه المنغمسة في ثرثرة نسائية مع إحداهن، يقف هناك جامدا دون أن تصدر منه أي حركة من تلك الحركات العفوية والاعتيادية للأطفال، اللهم إلا حركات عينيه التي تولت مهمة ترجمة مزيج من المشاعر التي لا تكاد عيناه الصغيرتان تستوعبها. الخوف، والقلق، والحزن، والكراهية، والخجل والدهشة، كل هذه المشاعر وغيرها اكتسحت صفحة وجهه حتى كادت تفقده براءته الأصيلة.

بهذه المشاعر المتضاربة بدأ الطفل الذي لم يكمل بعد ربيعه الرابع يتأمل كل شيء حوله وكأنه يستكشف العالم للوهلة الأولى. بدأت نظراته تنقله من زاوية لأخرى ومن وجه لآخر إلى أن استقرت به في وجهي الذي بادره بابتسامة ترحيب ما فتأ يلمحها حتى سارع إلى تغيير مسارها، وكأنه عزم على أن لا يزعزع نظرته الثاقبة تلك أي شكل من المؤثرات الخارجية.

كثيرة هي المواقف التي تمر على ذاكرتي كل يوم، لكن قليلة هي تلك التي تحتفظ بها لمدى بعيد لتعرض علي تفاصيلها بين الحين والآخر، وموقفي مع الطفل هذا يعتبرمن بين أهم المواقف التي احتفظت بها ذاكرتي.
في كل مرة أفكر فيه أجدني أنسج له في مخيلتي قصصا تروي حياته التي عاشها وتلك التي لم يعشها بعد، فأحزن تارة لطفولته المفقودة التي لم يعرف عنها شيئا، وأتحسر تارة أخرى على مستقبله الذي يمضي إليه بهذا الخوف والضياع الكبيرين.

أكاد أجزم أن هذا الطفل وكغيره من الأطفال في مجتمعنا، جاء ثمرة رجل وامرأة جمع بينهما عقد لا يفقهان في ماهيته شيئا، وبالتالي يدخلان فيما بعد في دوامات من الاختلافات والخلافات بل وصراعات لا حدود لها، فيحدث وهم في حالة الحرب الباردة تلك أن يأتيهما جني في نومهما ليبشرهما بالطفل المنتظر الذي سيحسم الأمر بينهما فينهي خلافاتهما ونزاعاتهما ليعيشا معا في سكينة وهناء، فيأتي هذا الطفل ليكتشفا أن بشراهما تلك ما هي إلا وحي من أحلامهما وأن مجيئه لم يزد سوى من تفاقم المشاكل وتوسيع الفجوة بينهما أكثر فأكثر، وهكذا وفي ظل هذه الفوضى الأسرية يجد هذا الطفل نفسه غريبا في عالم غريب مع أناس أشد غرابة.
هذا الطفل وجه وعيي نحو واقع التربية في مجتمعنا؛ حيث تجرد الأفراد كآباء وأمهات من مسؤوليتهم الحقيقية تجاه أبنائهم؛ إذ صارت الأخلاق والمثل العليا في زمان كان يا مكان، وعجزت أساليب التربية عن بناء أطفال سويين ومتوازنين، متشبعين بالحب والحنان وواعين بمسؤوليتهم تجاه النهوض بمجتمعهم.

نعم، لقد فشلتم في تربية أبنائكم، فقد استثمرتم في الموارد الاقتصادية والطبيعية وغيرها ونسيتم أن تستثمروا في أثمن مواردكم -الموارد البشرية- ظننتم أنكم تربون أطفالا في حين أنكم في الحقيقة تنتجون آلات بدائية مجردة من الإنسانية، ويا ليتها كانت كتلك التي تم تطويرها في هذا العصر لتستطيع فهم ومحاكاة الإنسان وتبدي ردود أفعال تجاه مشاعره، نعم، لقد حولتموهم إلى آلات فأصبحوا كلما بكوا أسكتموهم بآلة أخرى -أيباد أو جهاز جوال أو حتى جهاز تلفاز- طبعا، فلن يفهم على آلة سوى آلة أخرى من جنسها.

علمتموهم أن العالم مليء بالأشرار ولا مجال فيه للأخيار، رسختم في أذهانهم النظرية السخيفة التي تقول بأن الحياة سباق لا خيار لك فيه سوى الفوز بالمرتبة الأولى أو أنت فاشل، بل اختزلتم هويتهم في علاماتهم الدراسية فمارستم عليهم شتى أنواع القهر ليحققوا لكم حلمكم في حمل لقب مهندس أو دكتور أو محامٍ مرموق، حددتم لهم اهتماماتهم وأهدافهم فركزتم اهتمامكم على ما تريدونه أنتم وما يريده الآخرون ولم تكترثوا قط لمشاعرهم وأحلامهم، حرمتموهم من استقلاليتهم، وسلبتموهم حريتهم في الاختيار، وفي التعبير وفي أن يكونوا مختلفين.

حقا ظلمتموهم أشد ظلم. قتلتم فيهم الخير و الأمل، وقتلتم فيهم براءتهم وطفولتهم وقتلتم فيهم إنسانيتهم وبشريتهم، باختصار، قتلتموهم.

وفي المقابل، نسيتم في ظل غرقكم في متاهات انشغالات ومغريات العصر الحديث أن تعلموهم أشياء كثيرة عنكم، عن الحياة وعن العالم. نسيتم أن تعلموهم أننا لا نحارب الشر بشر مثله بل بمزيد من الحب والرحمة، لم تخبروهم أن الفشل وارد في الحياة وما هو إلا بداية جديدة للنجاح كما أنه أبدا لا يقلل من قيمتهم، نسيتم أن تعلموهم كيف يثقون في أنفسهم وكيف يعبرون عن مشاعرهم وأرائهم، ونسيتم أن تقولوا لهم أن الاعتذار قوة والتسامح عزة والاحترام رقي، نسيتم أن ترشدوهم إلى طريق الإيمان والعلم وأن تغرسوا فيهم حب البساطة والفن والجمال، كما نسيتم أن تبتسموا في وجوههم، أن تحضنوهم بقوة وتخبروهم أنكم تحبونهم كما هم.

إن الطفل أشبه بنبتة صغيرة تحتاج لتربة خصبة لتحيا وتنمو وتزهر لتفوح عطورا تتنفس بفضلها الحياة، وأن أسوأ ما قد يحدث لها هي أن لا تتلقى شيئا غير الإهمال فتموت أو أن يتم سقيها بمواد كيميائية سامة تودي بحياتها وحياة ما حولها.
تأملوا العالم لوهلة، تأملوا في حجم الفساد والجرائم والجهل والظلم والإرهاب وكل تلك الحروب، ربما قد يتبادر إلى ذهنكم أن تتساءلوا من المسؤول عن كل هذا؟ وفي الوقت الذي تشرعون في اتهام هذا وذاك قد تجهلون أنكم السبب الأساسي وراء كل ذلك، فكل مجرم خطير، وكل جاهل جهول، وكل طاغية مستبدة وكل ظالم وفاسد ما هو إلا نتاج تربيتكم أنتم، بل أسوء من ذلك، فقد تظنون أنكم تعدون أجيالا ولا تدركون أنكم في الحقيقة تنتجون قنابل ذرية ستفتك بكم قبل أن تفتك بالبشرية جمعاء.

فاحرصوا إذن قبل أن تنجبوا أطفالكم على أن تعدو لهم تربة صالحة تمدهم بالحياة وتمنحهم نموا سليما ومتوازنا وأن تسقوهم بكثير من الحب والخير وكثير من الحنان، ثم تأكدوا حينها أنكم ستجنون ثمارا سليمة، ناضجة وصالحة تعود بالنفع عليها وعليكم وعلى البشرية جمعاء، أما إذا كنتم ستلدونهم فقط لتقتلوهم فرجاء لا تلدوهم.

1xbet casino siteleri bahis siteleri