معاني من واشنطن

وصلت إلى واشنطن ليلا، قادني إلى حيث سأمضي الأربعة أسابيع المقبلة شاب نيجيري يشتغل سائقا، وحين استيقظت صباحا أدركت أن البشرة السمراء تكسو شوارع العاصمة الأمريكية، الأمريكيون من أصول إفريقية يعملون ويكدون جيدا ويفتخرون بكل معركة خاضها من قبلهم لتحقيق المساواة والعيش بكرامة وحرية تحت غطاء القوانين واللقيم الإنسانية التي لا تفرق بين أبيض وأسود إلا أن الحالات الخاصة لا تخلو من أية رقعة. اشتريت بعد ذلك بطاقة تخول لي ركوب المترو وحافلات المواصلات معا، مترو كل دقيقتين وحافلة تحترم التوقيت وحافلة أخرى مجانية تجوب شوارع العاصمة، لا تحتاج سيارة لتتنقل هنا ومن يعيشون هنا لا يعتبرونها ضرورية أو كمالية، خرائط جوجل كانت دليلي في أنفاق المترو تحت أرضية، ومن هنا بدأ المشوار..

 

اليوم الأول في المنظمة غير الربحية التي سأمضي فيها أربعة أسابيع، لأتعلم وأشارك معهم تجاربي وخبراتي.. تعرفت على فريق العمل وأول ما لاحظت عيني المكان الجميل والتجهيزات التي يتوفرون عليها، لكي لا يلعن أحد الظروف ويركز على عمله ولا شيء غير عمله، وفروا لي غرفة خاصة-لعلمهم بصيامي في رمضان- إن أنا أردت الصلاة فيها أو الراحة، العلاقة المهنية هنا مبنية على الاحترام والتقدير لتكون هناك فعالية وإنتاجية في العمل، الأمريكيون يحترمون أوقات عملهم ويولونه أهمية في حياتهم، المنظمات غير الربحية في واشنطن لها شأن كبير لأنها تشتغل على قضايا المجتمع وصناعة الرأي العام منها ما هو سياسي داخلي ومنها ما هو خارجي..

مقالات مرتبطة

الروح الإيجابية هي الطابع العام، إذا التقيت بالناس يقولون لك “أتمنى لك يوما رائعا” ولما كانت الإيجابية عدوى فإنها ما تفتأ تنتقل بين جيل وجيل..! بعد مرور الأسبوع الأول.. كنت قد انسجمت مبدئيا، لكن فراغا ما أحسست به في دواخلي ورمضان يأتيني وأنا بعيد عن أهلي ووطني… لم يتغير ولا شيء في محيطي الخارجي، أحسست بغربة وأنا أفكر كيف سأمضي هذا الشهر الكريم… أين أجد المسجد ؟ أين أجد أكلا مغربيا متميزا.. لكن لم يكن لا هذا ولا ذاك يسيرا ومتوافرا كما كان سابقا.. التقيت مغربيا مقيما بأمريكا منذ سنوات، جاء عندي وأخذني إلى مطعم فلسطيني رائع خارج واشنطن، تبادلنا أطراف الحديث وفتح عيناي على آفاق كثيرة من خلال الطاقة المنبعثة من كلامه وأفكاره، ذهب بي إلى زيارة مسجد للمغاربة.. سمعت الدارجة المغربية فارتاح لساني بعد تعب دام لأسابيع من اللغة الإنجليزية…

الحياة في أمريكا غير التي سوق لها في الأفلام الهوليودية، عمل المنظمات هنا هو عمل يحترم ذكاء الإنسان كيف لا وهو يبني أفكار المستقبل، المشاريع هنا لا تقل عن 10 سنوات تخطيطا.. الشعب هنا يؤدي ضرائبه بوعي ويحاسب المسؤولين أين تصرف وفي أي قضايا ؟ مستوى العيش مرتفع، مما يتطلب العمل ثمان ساعات يوميا فقط لتوفر شروط الحياة الأساسية (مسكن، ملبس، أكل) لا يمكن أن تتحدث عن واشنطن دون أن تذكر متاحفها الرائعة من ناحية الجمال والتنظيم والتي يمكن أن تزورها مجانا عكس متاحف نيويورك، يمجدون تاريخا صنعوه حديثا، يفتخرون بالعلوم والتقنيات والأهم من ذلك كله أن 70% من رواد المتاحف هم الأطفال في المستوى الابتدائي والإعدادي، غير أنها مليئة فقط بما هو أمريكي ولا اعتراف فيها بالأمم السابقة لها بإنجازاتها في العلوم …

 

التقيت عدة أمريكيين، منهم من استضافني في بيته وحضر لي إفطارا وأكلا حلالا وتبادلنا بعد ذلك الحديث حول العالم وأحواله في جو من الاحترام وتقبل الآخر، منهم من استضافني في مطعم لتناول وجبة الإفطار ومنهم من استقبلني في بيته ثلاثة أيام… يطلبون الإذن منك ليسألوك، وإن لم ترد أن تجيب.. لا تفعل ! ما أعجبت به هو أن هذه الفئة المثقفة تعترف لك أنهم يعيشون مشاكل أيضا مثل التغطية الصحية، تكاليف الدراسة في الجامعة، تراجع في مستوى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية… يعترفون أن تقبل الاختلاف واحترام الأديان ليس من شيمهم كلهم وإنما هو الحالة العامة… واشنطن، العقل المدبر لأمريكا علمتني كيف تكون العواصم ذات معاني…

1xbet casino siteleri bahis siteleri