ما بعد الفرنسة

لا يعاني المغرب وحده من المشكلات المتعلقة باللغة. ففي الجزائر، وهي أيضاً مستعمرة فرنسية سابقة، يتعلم الطلاب اللغة العربية في المدارس ليجدوا أنفسهم بعد ذلك في مواجهة الفرنسية في الجامعات والعمل.
يتشرب النشئ بعض المفاهيم الأجنبية منذ الصغر، وهذا قد يبقى تأثيره إلى مراحل لاحقة. وقد استحدثت نظريات جديدة في تدريس اللغات تقول بتدريس اللغة عبر تدريس ثقافة تلك اللغة وثقافة الشعب الناطق بها، وانتشرت هذه النظريات ولاقت هوى في نفوس الدول الاستعمارية، وذلك لأنها تحقق نشر لغاتها وثقافتها، ويتبع هذا انتشار نفوذها الاقتصادي والسياسي، وقد حصل هذا في الماضي في فرنسة المغرب العربي والعديد من الدول الأفريقية، ويحصل الآن في العديد من الدول الفقيرة، حيث يقضي على لغاتها وثقافتها، وبالتالي تتحول إلى مستعمرات ثقافية.
وتعكس هيمنة اللغة الفرنسية استمرار تأثير باريس في المنطقة، ففرنسا هي صاحبة أكبر استثمارات أجنبية مباشرة في المغرب وتوظف شركات كبرى مثل رينو وبيجو لصناعة السيارات عشرات الآلاف من المغاربة.

إن الفكرة التي لا يستطيع بعضهم قبولها هي أن لغة أخرى قادرة بالفعل على تهديد الأمن الفكري واللغوي، ومع كل الأسف، فإن تلك الفكرة حقيقة ثابتة لدى علماء اللغويات بشكل لا يدع مجالاً للرفض، فالدراسات الاجتماعية اللغوية تعرض المتلازمات الإيديولوجية والثقافية الثابتة التي تأتي في حقيبة واحدة كتلك التي تأتي مع التعليم بالفرنسية أو بأي لغة أجنبية.

السياسة اللغوية بالمغرب سياسة براغماتيّة بامتياز، باعتبارها مبنية على التعددية والتبعيّة، مما يجعلها سياسة تغريبية جعلت اللغة الرسمية لغة ثانية ولربما ثالثة، في حين انتصرت للغة المستعمِر وجعلتها في مصاف اللغات الرسمية، وهناك تفسير واحد لهذا الأمر، هو أن السياسة اللغوية بالبلاد لا تأخذ جديا في اعتبارها تكوين الأجيال الصاعدة معرفيّا وإعداده للحياة بالحرص على بناء شخصيته وتكوينها.

في مرحلة ما قبل الاستعمار، نجد فرنسا حاولت بشتى الطرق إضعاف اللغة العربيّة وجعلها في نظر المغاربة لغة التخلف والرجعية، بالمقابل سعت لوضع سياسة تعليمية مواكبة لأطماعها الاستعمارية في البلاد، حيث ركز المستعمر الفرنسي بالمغرب على المكانة الهامة للتعليم في تثبيت السياسة اللغوية الفرنسية وتحقيق الأهداف الاستراتيجية للمحتل، والحقيقة أن فرنسا نجحت إلى حد كبير في إنجاح مشروع التقسيم العرقي حيث جعلت لها مدارس فرنسية بربرية يتم فيها تعليم الفرنسية للصغار مع تقديم دروس محدودة من العربية.

كان للمدارس الفرنسية البربرية هدفان، اقتصادي وإعلامي. تمثل الهدف الاقتصادي في تكوين يد عاملة طيّعة ومؤهلة عمليا للمساهمة بنجاعة في رفع إنتاجية الاقتصاد الفرنسي بالمغرب الذي كانت الفلاحة تشكل إحدى دعائمه القويّة، أما الهدف الإعلامي، فسعت من خلاله فرنسا إلى استعمال المدرسة وسيلة لتغييب الحقائق بل وإعطاء حقائق مزورة في عملية تُشبه غسل الدماغ وشحنه بالدعاية والاعتراف للوجود الفرنسي.

هكذا إذن، لمْ تكن المدرسة والتعليم عموما، في التصور الفرنسي الاستعماري وسيلة لبلوغ غاية المعرفة والحق في التعلم، بل كان وسيلة ممنهجة لتحقيق الهيمنة على المجالات الحيوية (التعليم، والاقتصاد، والطب والقضاء) من خلال محاولة القضاء على اللغة العربيّة وجعلها لغة ثانية في البلاد.

غنيٌ عن القول، إن اللغة وعاء الثقافة الشعبية، ومستودع الذاكرة العلمية، والمأرز الثقافي لأجيال المستقبل. وإن العبث بها ليس كالعبث بالبطاقة التعريفية فقط، بل هو عبث مدمر لعدد من الشرائح المركبة في الأنا الثقافية للإنسان، إنه عبث بالهُوية ومساس بالتاريخ العلمي، بل هو استهداف للعقل الجمعي، ولما يتصل بعمليات التفكير وطرائقه ونواتجه، وما لم يكن التخطيط اللغوي واعياً لسياسيات الاستعمار اللغوي، وما لم يكن التطبيق راشداً في تنفيذ السياسة اللغوية العربية، فإننا سنصحو يوماً لنقول لبعضنا جميعا: “!Bonjour les gars “!

1xbet casino siteleri bahis siteleri