المنطقة الرمادية

لا تخلو حياتنا من ثنائية إعطاء الآراء ودحضها، ثم تفنيدها أو تأكيدها بحجج ودلائل تتعدد وتختلف باختلاف الطرف المحاوَر، أعني مستواه الثقافي التعليمي، ونضجه الفكري، وخلفيته الثقافية ومدى ترجيحه لملكة العقل أو الفؤاد. إننا ككائنات اجتماعية تسعى للاجتماع ببني جنسها في إطار مؤسساتي وتشريعي، كان لا بد من إنشاء منظمات دولية ترعى حقوق الإنسان على رأسها حرية التعبير والرأي ما لم يتم المساس بحرمة الأشخاص والمقدسات. وهكذا لحسن الحظ تم ضمان لكل إنسان حقه في التعبير وإبداء الرأي حسب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. لكن السؤال الذي يطرح نفسه ها هنا، هو كالتالي: “هل فعلا دائما ما يتم منحنا هذا الحق؟ إلى أي حد يمكننا القول بأننا قادرين على الإفصاح عن رأينا ونحن بكامل قوانا العقلية وبإرادتنا الحرة الخالصة؟

قد تمر عليك أيام، تجد فيها نفسك غير قادر فعليا على اتخاذ أي قرار، غير قادر على تبني رأي واحد بحزم وتعصب وكل ما يقتضيه الأمر من دفاع مستميت عن هذا الرأي. فأن تكون غير قادر هنا، معناه من زاوية أخرى، أن تكون غير مقتنع تماما لا بهذا الرأي ولا بالآخر، معناه أيضا أن تحترق بلهيب المنطقة الرمادية. فتعاتب هذا الطرف وتعاتب الآخر في بعض النقط وتنتصر لكل منهما في نقط أخرى.

فأن تجد نفسك في المنتصف ليس بالأمر الهين بتاتا كما يروج له، بل لا يمكن تشبيهه بالحياد حتى. فأن تتبنى موقف حياد، معناه أن لا تكترث لما يقع في الأرجاء، ينتصر من ينتصر وينهزم من ينهزم…الأمر سيان، معناه أيضا أن لا يكون لك رأي حول القضية المطروحة وأن تقبل بأي نهاية كيفما كانت وكأنك مجرد متفرج ولست بشخصية في القصة.

أما على العكس من ذلك، فأن تقف في المنطقة الرمادية معناه أن تحارب لوحدك، أن يمارَس عليك الضغط من الطرفين، فلا أنت كليا مع هذا ولا كليا مع ذاك. ومع ذلك تحاول دائما ترجيح العقل والمنطق والتخلص من أغلال العاطفة وعدم الانصياع سواء لقرار القوة أو الأغلبية بغير شرع. وبالتالي تحكم على نفسك بالعيش في صراع داخلي، تحاول من خلاله أن تعرف مكمن الحق والباطل في كل حجة مزعومة أو برهان. وهو الأمر الأشبه عزيزي القارئ بالبحث عن إبرة في كومة قش.

مقالات مرتبطة

ففي ظل تزييف الحقائق، وتضارب المصالح، وتسبيق المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، وقمع الآراء المعارضة وعدم نهج سياسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تجد نفسك أحيانا بعيدا كل البعد عن الانتصار لأي رأي من الآراء، بعيدا كل البعد عن اختيار الأبيض أم الأسود.

فإن كنا ننوه ونردد بأعلى أصواتنا أن حرية التعبير عن الرأي هو حق تكفله وتضمنه لنا المنظمة العالمية لحقوق الإنسان وكل الدساتير الديموقراطية، وإن كنا نتغنى فعلا بالشعارات التي تنادي بحرية التعبير وتبني الآراء، وجب علينا إذن أن نطبق ما ننادي به في جميع مناحي حياتنا اليومية، لا أن نستمتع دائما بلعب دور الضحية ونسج خيوط نظرية المؤامرة وأن نستغلها فيما ينهض بمصالحنا فقط. أما حينما يتعلق الأمر بتعبير أو إدلاء أحدهم برأي معارض لخاصتنا، تشتعل في أنفسنا شرارة الغضب، وتنهار الشعارات ونشرع في نهج سياسة القمع، وهو ما أكده فولتير عندما قال: “إني أختلف معك في كل كلمة تقولها، لكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقول ما تريد.”

فنحن باعتبارنا أفرادا، إن كنا حقا نسعى لتحقيق المصلحة العامة، فحينئذ لن تكون أمامنا طريقة حضارية أفضل وأرقى من أن نتناقش بالأفكار والحجج والبراهين بعيدا عن الرجوع إلى سفاسف الأمور من خلفيات ثقافية أو مذهبية أو غيرها…والمنتصر حينئذ هو من يقدم أقوى الحجج ويقنع الطرف الآخر، أما قمع الآراء وإجهاضها، فهو في نظري ليس إلا تعبيرا عن موقف ضعف ينهجه من يخاف على نفسه الانهزام والهوان أمام حجج الطرف المقابل.

و سأنهي عزيزي القارىء حديثي هذا، بقول أكثر من رائع لوينستون تشرشل يقول فيه: “الانتقاد قد لا يكون محببا لكنه ضروري، لأنه يقوم بنفس وظيفة الألم في جسم الإنسان وينبهنا إلى أمر غير صحي.” فأن ندافع عن نفس القضية، هذا الأمر لا يستلزم أبدا أن نكون على وفاق في كل شيء.
من هنا يمكن أن نلمس ونستشف أهمية ترك حرية التعبير عن كافة الآراء ومناقشتها بعيدا عن التعصب لإصلاح مكامن الخطأ والرقي بالمصلحة العامة، هذا إن كان غرضنا فعلا هو الرقي بالمصلحة العامة.

 

                                                                                                   

 

1xbet casino siteleri bahis siteleri