الفتح في نهاية النفق

983

فتح مكة…من يستطيع أن ينسى المشهد الختامي السعيد؟

ها هي مكة؛ التي اضطهدت الدين الجديد… وحاربت المؤمنين حتى عندما فتحوا صفحة جديدة في مكان بعيد. هاهي تفتح الأبواب لجموع المؤمنين وهم يدخلونها فاتحين. وها هم قادة مكة؛ الذين فيما مضى جيّشوا الجيوش للقضاء على الإسلام.

ها هم يتفاوضون للحصول على شروط أفضل قليلا ضمن الوضع الجديد. وها هي الأوثان؛ التي من أجلها حارب أهل مكة الدين الجديد…ها هي تتهاوى.. تتحطم.. تصبح جذاذا.

من يستطيع أن ينسى المشهد؟ لا أحد. لكن الكثيرين نسوا جوهر هذا المشهد، الكثيرون يتوهمون أن الفتح هو تحطم تلك الأوثان، لذلك يتوهمون أن تحطيم ما يعتقدونه أوثانا سيأتي لهم بفتح ينتظرونه.

الفتح بدأ منذ اقرأ، منذ بداية الوحي. واختصار الفتح إلى تحطم هبل، اللات والعزى ظلم كبير لكل ما حدث في الثلاثة والعشرين سنة التي سبقت. ولو أن الأمر كان يمكن أن يختصر بتحطيم الأوثان؛ ألم يكن من الممكن أن يختصر ذلك الطريق الصعب الطويل؟ ألم يكن ممكنا للصحابة  وهم على ما هم عليه من البطولة والشجاعة  أن يقوموا بعمليات استشهادية سمِّها ما شئت، فيقتحمون الكعبة ويحطمون أوثانها؟ و كفى الله المؤمنين القتال والطريق الطويل الصعب؟ لكن لا؛ ما كان يمكن للجيل الأول  وفيهم الرسول عليه الصلاة والسلام أن تكون نظرته سطحية …

كانوا يعلمون يقينا أن لا طريق مختصر إلى الفتح، وأن عليهم أن يقصدوا طريقا طويلا مليئا بالعثرات والمطبات وعليهم أن يسلكوا طريق النفق المظلم أحيانا لكي يصلوا إلى الفتح…لا طريق مختصر إلى الفتح. ولأن طريق الأنبياء واحد مهما باعدت بينهم الأزمنة؛ فقد كان لهم في تجربة أبي الأنبياء مثال واضح يقول لهم: أن لا فائدة في تحطم الأوثان ماديا قبل إزالتها من عقول الناس.

قام سيدنا إبراهيم عليه السلام وهو لا يزال فتى بالتسلل إلى معبد قومه وحطّم كل الأوثان. عندما جاء قومه ورأوا مذبحة الآلهة لم يفقدوا إيمانهم بها؛ بل جمعوا الحطب لحرق إبراهيم. ربما سيدنا إبراهيم كان يقصد فقط تحريك عقولهم؛ لكن العبرة واضحة: لا طريق مختصر للفتح.

ابدأ أولا بإزالة الأوثان من أذهان الناس، قبل أن تحطمها ماديا. ليس هناك من مصعد يأخذك إلى الفتح؛ عليك أن تأخذ السلالم.

لم ينقل عن أهل مكة أنهم صدموا عندما شاهدوا آلهتهم وهي تتحطم على شدة اعتزازهم بها…لم ينقل لنا أحد أن أحدهم قد فقد عقله أواُصيب بانهيار وهو يرى هبلا واللات والعزى وهي تصبح جذاذا. أليس ذلك غريبا؟ أن ترى بعينيك ما كنت مؤمنا به طيلة حياتك، ينهار فجأة ولا يحدث لك شيء؟ ليس غريبا؛ لأنه حدث بالتدريج. انهيار الأوثان الذي رأينا مشهده المادي في الختام، في فتح مكة، كان قد بدأ بالتدريج. ولذلك؛ لم تحدث صدمة. لقد كان المشهد النهائي انهيار الأوثان ماديا ما هو الا تحصيل حاصل لإزالة تدريجية عبر ثلاث وعشرين سنة.

مقالات مرتبطة

أوجب الإشارة إلى أن التحطم التدريجي للأوثان لم يكن عبر النقاش مع المشركين حول سخف ولا منطقية الأوثان، فعلا هناك فئة من الناس تغير رأيها من خلال النقاش؛ لكن جموع الناس ليست كذلك جموع الناس بل تتغير عندما ترى البديل الأفضل أمامها. وهذا ما فعله عليه الصلاة والسلام، قام ببناء البديل؛ المجتمع البديل، لم يكن مجتمع المدينة مجرد مجتمع بلا أوثان. ولم يكن البديل مجرد نقاش في التوحيد ضد الأوثان. كان البديل بديلا اجتماعيا، نظاما ناجحا اقتصاديا، قام بتوفير عدالة اجتماعية متوازنة. كان هذا البديل ناجحا واستمرار نجاحه هو الضربة الأكبر في قاعدة أكبر صنم من أصنام قريش.

نظلم كثيرا مفهوم الفتح في تصورنا أنه يقتصر على الجانب العسكري، ذلك لأنه لم يكن كذلك حتى في وقتها؛ بل إن كلمة الفتح أولا جاءت في القرآن الكريم على الصلح، و ليس على الغلبة العسكرية. فقد وصف القرآن الكريم صلح الحديبية بأنه فتح مبين؛ و هو الصلح الذي مكّن المسلمين من توسيع نشاطهم الاجتماعي والدعوي. الفتح هو أي نجاح يتوج رحلة كفاح…أي ثمرة نهائية بعد طريق طويل. الفتح هو الوصول لأي بديل يقنع الناس بتبنيه. لا تقل : زمن الفتوحات انتهى ؛ ربما ما انتهى هو الجزء التاريخي العسكري؛ لكن الفتوحات الحقيقة لا تنتهي قط.

أي حل بديل لأي مشكلة في العالم هو فتح. في مجالات علمية، اقتصادية، اجتماعية…كلها فتوحات زمنها لا ينتهي قط. ثمة فتح ينتظرنا كل يوم؛ علينا أن نذهب له عبر ذلك النفق.

هذا الكلام ليس من عندي؛ بل هو من كلامه عليه الصلاة و السلام . إذ صح عنه حديث: (إذا أصبح أحدكم فليقل أصبحنا و أصبح الملك لله رب العالمين اللهم إني أسألك خير هذا اليوم فتحه و نصره و نوره و بركته و هداه و أعوذ بك من شر ما فيه و شر ما بله و شر ما بعده ). صحيح الجامع و قال الألباني حديث حسن. فتح هذا اليوم؛ ثمة فتح كل يوم . عليه الصلاة و السلام يقول لنا إن الفتح أكبر بكثير من مجرد نصر عسكري؛ لأنه لا توجد أصلا غزوة كل يوم. الفتح هو فتح أي شيء مغلق؛ أي عقدة في طريقك كل يوم.

فماذا أعددت لفتحك يا صديق؟ هل ستقول إن الأمر أكبر منك و أنك مجرد شخص عادي؟ لا يا صديق؛ لست عاديا أبدا…لست عاديا إلا لو آمنت أنك كذلك. ثمة فتح ينتظرك كل يوم. ربما الأوثان التي عليك أن تهدمها في هذا الفتح هي تلك الأوهام التي بداخلك؛ التي توهمك بأنك عادي، بأنك فاشل، بأنك لن تحدث فرقا.

عليك أن تهدم هُبل يأسك، لات عجزك، مَنات تصورك بأن لا شيء مهم سينتج عنك. هذه هي الأوثان التي عليك أن تمسك بالفأس وتحطمها.

ثمة فتح ينتظرك هناك عند نهاية النفق…الآن أنت تعرف الطريق.

 

 عن سلسلة “لا نأسف على الإزعاج” للدكتور أحمد خيري العمري

تفريغ : خولة أغبالو

تدقيق لغوي: آية الصابر

 

 

1xbet casino siteleri bahis siteleri