الدين من مصدر طمأنينة إلى مصدر قلق!

615
“مسكينة القيم كلها حين لا تصدر إلا عن هزيمة حياة”. جبرا خليل جبرا
من نافلة القول التأكيد أن الأديان كلّها، السماوية منها والوضعية، جاءت بقصدية وباعث تهذيب السلوكات وتحسين الأخلاق، ورفع العلاقات البشرية فيما بينها، وكذا العلاقات بين الخالق ومخلوقاته إلى مستوى عال من الخيرية والصلاح، تحقيقا للغاية الأزلية من الوجود. فالدين في آخر المطاف، لا يكون ذا فائدة إن لم يحقق للإنسان ذاك السلام الداخلي والطمأنينة النفسية والروحية والرقي الأخلاقي والمعاملاتي. طبعا، دون تحميل الدين ما لا طاقة له به، فهو أبعد من كونه ترياقا لكل أعطابنا البشرية الذاتية والعضوية التي تحتاج بالتأكيد إلى أنواع خاصة من العلاج. فمن الحماقة إغلاق المستشفيات فقط لأن الله هو الشافي!!
في سياق ما أحدثته بعض الخلايا المتطرفة، المحسوبة على “الإسلام”، تحت ما أضحى يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية بالشام والعراق، وفي ظل ما نشرته من قلاقل ورعب وتهديدات للأمن القومي على المستوى العربي، بل على المستوى العالمي، وبعدما وُسمَ كل “مسلم” بالإرهابي بما يخفيه داخل حقيبته الفقهية من فكر تفجيري وتكفيري وأحزمة ناسفة ومحو الآخر “الكافر” الخارج عن الملة؛ دقت دول الغرب والشرق على السواء نواقيس الخطر القادم من الفهم المغالي والمتطرف للدين، ومن بعض التفاسير الجهنمية الإقصائية والإفنائية لبعض المضامين القرآنية والحديثي. بعيدا عن المقاصد الروحيانية التي تنحو وتجنح إلى صناعة السلم العالمي من منطق الرحمة والتآلف والعيش الآمن، مصداقا لقوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إلّا رَحْمَة للعَالَمِين}،وقوله عز من قائل: {وَجَعَلنَاكُم شُعُوباً وَقَبَائِل وقبائل لِتَعَارَفُوا }.

 

وكذلك قوله جل وعلا: {وَإِن جَنَحُوا للسّلْم فاجْنَح لَهَا وتَوَكّل عَلَى الله}. من هنا تعالت الأصوات وارتفعت النداءات بضرورة صياغة الفهم صياغة تعلي من شأن الإنسان وتصغي إلى وجوده ككائن يستحق العيش على هذه الأرض، مهما كان توجهه العقائدي أو انتماؤه العرقي أو الطائفي. وأمام هذا التحول المُلحّ غير القابل للتأجيل ولا للتجاهل، سارعت مختلف الدول العربية ممثَّلة في وزارات التربية والتعليم، وفي كوادرها المهتمة بالشأن الديني، إلى إعادة إنتاج مناهج دراسية ومقررات تربوية تتناسب وراهنية الوضع الدولي، وهو الرّكب نفسه الذي سارت فيه وزارة التعليم المغربية، من خلال مراسلة مستعجلة وجهتها إلى لجان التأليف المدرسي وناشري الكتب المدرسية، وذلك في مطلع يونيو/ حزيران الماضي، مفادها « إعطاء أهمية أكبر للتربية على القيم الإسلامية السمحة والتعايش مع مختلف الثقافات والحضارات الإنسانية». بمعنى إعداد منهج “ديني” يتغيا بلوغ مخرجات تربوية وقيمية قادرة على ضخ المجتمع بمتعلمين [قادرين على معرفة ذواتهم المشبعة بالقيم الإسلامية المتسامحة والقيم الحضارية، وقيم المواطنة، وحقوق الإنسان، وبلورة ذلك في علاقاتهم مع الآخرين] (1). الخطوة التي لقيت مباركة واستحسان عدد هام من المهتمين بالشأنين الديني والتربوي، طبعا دون إغفال بعض أصوات الاستنكار والشجب المرتفعة هنا وهنالك بخصوص بعض التفريعات والتفاصيل التي قدمها الإصلاح الجديد.
بأي جديد جاء الإصلاح ؟
مقالات مرتبطة
من المبكر حقيقة التحدث عن إصلاح شامل وتام، والوزارة الوصية لازالت في سعي حثيث لإنزال مختلف المستجدات لتشمل كافة الأسلاك التعليمية. ومن استباق الأوان كذلك الحكم على تجربة إصلاحية لم تزل في مهدها الأول. لكن وبالرغم من ذلك، وحسب ما توفر لدينا من مراجع جديدة تمت المصادقة الرسمية عليها، يمكن التأكيد _-لحد الآن على الأقل- على أن مرامي الإصلاح والتغيير والتجديد لم تبرح مكانها القديم. وأن نماذج الكتب المدرسية الجديدة، خاصة بالسلك الابتدائي، لم تكن إلا نسخا طبق الأصل مما تم تداوله سابقا، سوى ما تم الوقوف عليه من تحديث في الشكل والمظهر. كما يمكن لأي كان أن يلمس إدراج بعض الدروس ذات المضمون الحقوقي والوطني، وهي الدروس ذاتها المُدرَّسة في مكون “التربية على المواطنة”. ليُلخَّصَ عمل لجان التأليف بكل بساطة في نقل دروس من مقررات موازية ودمجها بين دفتي منهاج ” التربية الإسلامية”، مع تعزيزها بآيات قرآنية ونصوص حديثية شريفة، لتغدو في حلتها الأخيرة في ثوب ديني صرف، مع الإبقاء على نفس التآويل والتفاسير لبعض الآيات والأحاديث المأخوذة من كتب المفسرين المعروفين في تراثنا الإسلامي (الطبري، القرطبي، ابن حجر العسقلاني…)؛ وغض الطرف -إلا في الفروع- عن اجتهادات المعاصرين، أصحاب الخطاب التنويري المنفتح والمتسامح مع الآخر. أولئك الذين تعاملوا مع التراث الفقهي الموروث بمنهج نقدي جينالوجي يعود إلى الأصول، ويعيد محاكمة  كل ما تداوله التاريخ، بل ويتجرأ على قلبه أحيانا رأسا على عقب ليوقف كل العقارب على زمن الصفر.

 

فكل إصلاح إذن يركز على الزخارف وعلى القشور، ولا يعطي أدنى أهمية للمضمون ولجوهر الأشياء؛ لا يعدو أن يكون مَثَلُهُ مثل الذي يحاول طلاء بيت متهدم الأركان والسقوف، جريا على نهج الإصلاحات التي راكمتها المنظومة التربوية المغربية منذ انقضاء فترة الاستعمار إلى يومنا هذا.

 

فـأي جديد تظن هذه اللجان المكلفة بالإصلاح أنها أتت به؟ وأي فتح هذا الذي تعتقد أنها بلغته، حين جعلت دروس المقررات الجديدة تنطلق من مداخل تحت مسميات(التزكية – الاقتداء – الاستجابة – الحكمة – القسط)؟ كلمات رنانة تم اجتزاؤها عن وعي -كما يبدو- لتحل محل ما كان قبلها من “مسميات ” حَرَفَتْ حسب اعتقاد ” المصلحين” الفُهوم عن مسار الدين الصحيح! وما الداعي لأن نغير ألوان ” قبعات ” الدروس، ما دمنا لا نزال ندرّس أبناءنا -بعد الإصلاح- نفس ما كنا ندرّسه من الفكر قَبْلاً بدعوى أنه من ثوابت الدين وقواعده اللازمة؟! أليس حريا بمن أنيطت بهم مهمة برمجة المقررات الدينية من الصفر إعادة النظر في مواضيع التكفير والجهاد والفتوحات الإسلامية، والحد ما أمكن من انتشار وتوسع التفسيرات والتأويلات القاتلة الموروثة، التي أنشأت تدريجيا ما يسمى بالإسلاموفوبيا؟

 

إن الإصلاح غير القادر على اقتلاع الداء من جذوره. ولا يعيد تفكيك وغربلة ماضي المدونات الفقهية المتعرق والمتجذر في نفوس من أُوكل بهم إعداد وتمرير المناهج الجديدة، سواء من لجان التأليف، أو من المدرسين أنفسهم؛ لَهُوَ تضليل ودرٌّ للرماد في العيون، وتهدئة لحناجر الصارخين والمثربين من الغرب؛ طبعا وكالعادة، سنكون بهذا الإصلاح السطحي بذّرنا المال العام على حفنة مصطلحات ومقررات تعيد إنتاج الخطاب القديم في جلابيب جديدة تُغَيّرُ ألوانها كل سنتين أو ثلاث، الأمر الذي سيجعل  من تدريس “الدين” دائما مصدر قلق وتوجس وإرهاب كما كان تماما قبل نوايا الإصلاح. في حين أن عمق التغيير يكمن في الاعتراف، كما اعترف “جمال الدين الأفغاني” سابقا بأن أقصر طريق للتبشير بالإسلام في العالم، أن نقنع أنفسنا أولا أننا لسنا مسلمين جيدين.
……………
هوامش
( 1 ) : التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس التربية الإسلامية بالسلك الثانوي التأهيلي. مديرية المناهج. نونبر 2007

 

1xbet casino siteleri bahis siteleri