نجيب محفوظ والعودة إلى صناديق قديمة !!

727
“اذكروا محاسن موتاكم” و”اذكروا موتاكم بخير”، عبارتان تعدان حسب تقديري البسيط من أعظم ما يُقدم للميت من احترام وتقدير يليقان بشخص غادر ظهر الأرض إلى بطنه. وهما- أي العبارتان- خير أثر يؤكد على أن الدين الإسلامي الحنيف لم تفُته إقامة جسر نفسي-معنوي بين الحي والميت بالرغم من كل الصلات المحسوسة المنتهية والمنتفية؛ فالاجتماع وارد بين البشر سواء في الحياة أو في الممات، ولعل الشاعر كان صادقا حين قال :
كُنا على ظهرها والدهرُ يجمعنا *** والشّملُ مجتمعٌ والدارُ والوطنُ
فمزّقَ الموتُ بالتفريقِ أُلفَتَنَا ***وصار يجمعُنا في بطنها الكَفَنُ
مقالات مرتبطة
لعل جميع الأوساط الثقافية في مصر وفي العالم العربي تداولت مؤخرا خبر اتهام الروائي نجيب محفوظ بتهمة “خدش الحياء”، وذلك من خلال بعض رواياته الاجتماعية شديدة الواقعية، بل و”الفاضحة” كما ادعى المتهِمون : كرواية الحرافيش وثرثرة فوق النيل والثلاثية …؛ لكن الأمر لم يقف هاهنا، بل تجاوز ” النجيب” كل حدود اللياقة، متسلقا أسوار الأديان الشاهقة والمنيعة حين كتب “أولاد حارتنا ” -الممنوعة من الطبع في مصر آنذاك- بدعوى ازدراء الأديان وتشخيص الذات الإلهية تحت اسم ” الجبلاوي ” بطل الرواية.
باختصار شديد، أُعيد النفخ في رماد بارد، وأعيد فتح ملفات قديمة لا لشيء سوى لإثارة عجاجة ضد الفكر وضد القلم وضد العقل في مستوى أعلى؛ وهذا ما يخشاه طبعا العقل الإقصائي المشحون بمنطق ” لا أريكم إلا ما أرى” الذي تفتخر بتبني أفكاره ومقولاته مجموعة من الجماعات والطوائف المحسوبة بالضرورة على التيار الإسلامي السلفي المتشدد؛ العقل الإسلاموي الذي ظل “محمد أركون” و”عابد الجابري” و”مالك بن نبي” وآخرون عاكفين مدى عقود على دراسة أنماط وآليات إنتاجه لفكره المستقل، ومن تم نقده وانتقاده في مرحلة متقدمة؛ العقل الساعي وبلا شك إلى تكفير الأشخاص واتهامهم تحت أدنى تحرك خارج القوالب الموروثة والموضوعة سلفا، حتى وإن كان الأمر يحتمل تآويل عدة، وينفتح على سياقات تفسيرية مغايرة أخرى ممكنة.

إن اختيار نجيب محفوظ دونا عن كل أدباء مصر الذين كتبوا تماما كما كتب محفوظ، أولا بحظر بعض أعماله من النشر، ثانيا تعرضه لمحاولة اغتيال في أكتوبر عام 1994 على يد شاب متشدد لم يقرأ له على الإطلاق ولكنه كان مقتنعا أنه أصبح كافرا وخارجا عن الملة بسبب رواية “أولاد حارتنا”، لأمران يثيران الدهشة والاستغراب حقا، بل وكيف تُبعث الروح في تهمة قديمة ضد نفس الأديب الذي أصبح رميما تحت الأرض؟! مع العلم أن هذا “المتهم” هو نفسه الذي وجه كاميرات العالم وأنظار الصحف العالمية إلى مصر غداة إعلان فوزه بجائزة نوبل للآداب سنة 1988، رافعا رأس مصر والأدب العربي في الشرق والغرب. فهل يمكن أن نتحدث هنا حقا عن أعداء للنجاح؟ قد لا نستغرب هذا من أوطاننا العربية التي ما فتئت تلتف حول الناجح حتى يفشل بتعبير مواطنه “النوبلي” في الكيمياء ” أحمد زويل”. ومما يعضد قولنا هذا بالانتقاء المقصود، ادعاء نفس المدعين أن جائزة نوبل مجرد إكرامية من الأكاديمية السويدية عرفانا منها لمواقفه الإيجابية في عملية إحلال السلام بين إسرائيل وفلسطين، وهو الموقف السياسي الذي مُنح عليه ” أنور السادات” جائزة نوبل للسلام سنة 1978؛ وإلا، في تبرير ثان، فالجائزة الممنوحة ل”النجيب” فعن جراءته على الأديان وازدرائها بروايته الملغومة “أبناء حارتنا”! فالجائزة في جميع الأحوال لم تُمنح البتة عن رصيد محفوظ الروائي والقصصي حسب المدّعين، إنما عن مباركته السياسية للسلام مع الكيان الإسرائيلي، وبالتالي الاعتراف به ضمنيا كدولة شرعية بين دول المنطقة. فالسهام حسب ظني موجهة نحو “محفوظ” لأنه بالذات “محفوظ” وليس لشيء آخر !!
كائنة ما كانت الدوافع إذن وراء العودة إلى فتح الصناديق القديمة، واستنطاق الملفات المؤرشفة، التاريخ الإسلامي على الأقل في جانبه المتواتر غير المختلف عليه، لم يَسْعَ إلى تكميم أفواه الأدباء وكبت أقلامهم وتعريض حيواتهم للإفناء، بل على العكس من ذلك، حتى لو عدنا إلى عهد الرسول (ص) فإننا مَلْزُوزُون لاستحضار اهتمامه بالشعراء وإعجابه بشعر حسان بن ثابت وكعب بن زهير ولبيد بن ربيعة وعبد الله بن رواحة، بل وبشعر أمية بن أبي الصلت رغم ثبوت كفره ، فلماذا لم يتعرض أمية هذا للاغتيال وللمحاكمة؟فإذا كان هذا حال النبي (ص) مع أرباب الأدب، فالأحرى أن نظل متأسين بخير البشر في كل زمان ومكان، لا أن نقصف كل من يحمل قلما بتهم شتى حول نص أدبي يحتمل مساحات واسعة من المجازات وآفاق لغوية منداحة. وهذا بالفعل ما أكده ” محفوظ” في أكثر من لقاء، نافيا أن “أولاد حارتنا” كان الغرض من تأليفها استفزاز أصحاب الأديان السماوية والاستهزاء بتاريخهم وبموروثهم وبمقدساتهم. فعلى الأقل كان على الأزهريين سابقا، وعلى المدعين حاليا، أن يحكموا على المرء بما يظهره لنا بالقول وبالفعل، تاركين السرائر لحكم الله وحده، دون دمغ أول تأويل يطفو على السطح واعتماده تأويلا مطلقا ونهائيا، تُبنى على أساسه تهم وأحكام قضائية جائرة.
إن الأدب بتعبير “ماريو باركاس يوسا” أفضل ما تم اختراعه للوقاية من التعاسة، ولعل طريقه أكثر الطرق اختصارا إلى جعل الإنسان يحس بإنسانيته المفقودة، وجعله يعثر على سبيل للعودة إلى فطرته الأولى، فطرة النقاء والصفاء والبراءة، بعيدا عن الوحشية والإقصائية وإلغاء الآخر ودفنه تحت التراب. والأديب كنز قومي وجب أن تفخر به كل أمة وتسعى للحفاظ عليه كما تحفظ التحف، كيف لا وقد قال وينستون تشرتشل : ” إن بريطانيا العظمى مستعدة للتنازل عن جميع مستعمراتها في العالم، لكنها لا تستطيع التنازل بأي حال من الأحوال عن سطر واحد كتبه شكسبير!”، وبالمثل، ذات مرة اقترح بعض مستشاري الزعيم الفرنسي الجنرال “شارل ديغول” اعتقال الفيلسوف والمفكر الوجودي “جان بول سارتر”؛ كونه كما يقول مستشارو الرئيس: «يحرّض الطلاب وطبقات العمال على التظاهرات (بالإشارة إلى انتفاضة الطلاب في فرنسا والمتمثلة في تظاهرات 1968م)، وهذا من شأنه إحداث قلاقل»، حد زعم المستشارين بالوشاية بسارتر؛ لكن “ديغول” فاجأ الجمع بقولته الشهيرة : ” إنكم بصنيع كهذا تريدونني أن أعتقل ضمير فرنسا بأكملها !”.
فيا إخواني في مصر وفي العالم العربي، دعوا أرباب الأقلام أمواتا وأحياء، فلهم رب يحاسبهم على ما تضمره جوانحهم ومحابرهم وأوراقهم، فإني أخشى أن يخرج محفوظ من قبره مرددا بيت المعري:
وما ضرَّني غيرُ الذينَ عرفتُهُم***جزَى اللهُ خيراً كُلَّ من لستُ أَعرفُ
1xbet casino siteleri bahis siteleri