لم يكن القرآن بالنسبة لي كتابا مقدسا يتلى آناء الليل وأطْراف النهار فحسب، لقد كان طبيبي ودوائي أهرب إليه في كل أحوالي، لقد كان رفيقي وما أعظمه من رفيق، يوجهني للطريق المستقيم في أيام حيرتي، يؤْنس وحدتي ويخفف عني كرْبتي في لحظاتي الصعبة {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [ال عمران-140]
كل المرات التي ظننت فيها أنها النهاية وأنني لن أقوى على الوقوف مجدداً يأتيني لطف الله من حيث لا أدري، ويتبين لي أنها لم تكن سوى بداية، بل بدايات، بخبرة أكثر وحكمة أوسع، نقترب أكثر من أنفسنا ونفهم من نكون، نبحث عن المشكل الدفين وراء تفاعلاتنا.. ونسعى جاهدين لنحضن الطفل داخلنا، نتفهم شغبه الطفولي أحيانا ونكون ممتنين لأخطائه البشرية أحيانا أخرى، لأن لها الفضل الأكبر في تطونا…لكن أن نجاهد أنفسنا، أن نحاول جاهدين ألا نعلق سعادتنا بماديات زائلة، كما قال شمس الدين التبريزي:
“تعلق الفاني بالفاني يفْنيه وتعلق الفاني بالباقي يبقيه.”
لا شيء يستحق أنْ تفنى حياتنا لأجله، تعلقنا بالله يذكرنا دوما بالغاية الأسمى لمسيرتنا الإنسانية منذ الصرخة الأولى إلى النفس الأخير، يذكرنا دوْماً بجدوى وجودنا هنا وإن ضللنا السبيل مرات عديدة ف {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء-78].
إن الأصعب في لحظات الضعف التي نمر بها أنها تخدر قدرتنا على تخيل الأشياء الجميلة والإحْساس بها، ننسى الأحداث المبهجة ويخيل إلينا أننا ما عشنا فرحا، ننسى أنها أيام معدودات ونعود لاستشعار الجمال في كل شيء وكل لون.. كشروق الشمس في المروج مع نسمات الهواء الباردة، طيور تائهة في السماء, وأطفال يجرون في كل صوب ويضحكون بدون اكتراث.
تذكر دوما أن ظلام الليل لن يطول وأن الفجر آت لا محالة. إياك أن تقنط من رحمة ربك، وتيأس من عطائه {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر -56]
الحياة لا تتطلب منك القوة فقط، لست في حلبة ملاكمة مع الحياة وعليك أن تخرج منها منتصرا، أنت في الحلبة مع أهوائك ونفسك التي تعرقل مسيرك إلى الله الأحد، أنت في حرب مع الشيطان داخلك، إياك أن يوسوس لك يوما أنك أعلى شأناً من الآخرين، اهزمه بيقينك التام أننا هنا على هذه الأرض سواسية، إياك أن تظن يوماً أن قربك من الله بعباداتك يعطيك صلاحية التقليل من الآخرين فقط لقصور عباداتهم أو لهفواتهم، فقد تكون ابتلاءات تقربهم من الله. النهي عن المنْكر مستحب وواجب لكن إياك والتدخل في علاقة عبد بربه، ادعه متضرعا أن يثبت قلْبك.
