والله غالب على أمره

736

وطأطأت رأسي من شدة الألم الذي يعصر قلبي، لو كان الصراخ بملء الكون يشفي علتي لفعلت، أأغمض عيني وأفتحهما وأجدني لا أذكر شيئا من هذا الألم؟ أم أجدني هناك بينهم، حولي الركام ورائحة المسك والعنبر، عساني أستشهد بينهم ومثلهم، عبثا أحلم! أقف كعمود غرس في بيداء بلا نفع، لا أملك إلا هذا الوجع الذي ينفطر منه القلب، أقف كمن أقبل عليه الموت وليس بيديه ما يساومه به، ولا يجد منه منفذا، وهل يفلت أحد من موت!

توالت الخيبات، وأضحى الزمان يخلد صمت الحق بين المتعبة قلوبهم، الناظرين فرج قريب يعده الرب وهل يخلف الرب وعده! توالت النكبات وملأ ظلم وجبروت الغاصبين جل أيامنا، ليستباح كل شيء فينا، ليستباح حق أن تكون إنسانا على يد من يدعون لدين الإنسانية. ثم ماذا يملك فارغ اليد والجانب أمام طاغٍ؟ من ذا ينصر عزيزا أحاطه أشقاء يوسف، أبيضُ الراحةِ يجابه عدوا مستأسدا بكل سلاح متاح، متغولا بالواشين والشامتين، حاف القدمين يتربص جبانا أعانه خائن على المسير كيف وأين شاء، ماذا يفعل من لا حول له ولا قوة غير أن يستنصر بالقوي الجبار.

بعد أن رحلت الشمس إلى غياهب اللانهائية، اجتمعوا على إبريق شاي بأعشاب ثورية ترجع بذاكرتهم إلى زمن العماليق، تعاهد الحاضرون أن يعبروا الحدود بعد الفجر وأن ما ينتظرهم هناك شيء عظيم قد يغير حياتهم إلى الأبد وأنه لربما لن يعودوا مجددا إلى البلد، انصرفوا في ساعات الليل الحالك الأولى، وكان ميعادهم الصبح، {أَلَيسَ الصُّبحُ بِقَريبٍ}؟ [هود: 81]

أتى الصبح وكان سبتا، {وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ} [الأعراف: 163]، آتاهم العماليق وأخذوا شيئا من حقٍ، كسروا فرعنة، لم يظن الجبناء والمتخاذلون أنها مكسورة، كانت تلك بداية ملحمة آسرة بالنصر والبركة والثبات على حق وعده الرب. وما كان رد الجبناء إلا بتغول على نساء وأطفال ورضع، ورغم ذلك لم تنكسر عزيمة أصحاب الأرض، من يذبحون كل يوم، وانكسرت همة من ينعم بنوم هنيء، جل من بكى وحزن أول يوم نسي بعد أسبوع لربما شهر، حالنا حال من فقد عزيزا وكثر المواسون ولم يبقَ معه في مصيبته ودعا لفقيده إلا من حمل شيئا من كربه ومن صدقه حبا.

في صباحات غزة حيث رائحة الصواريخ تملأ الأرجاء، والموت يمشي بخيلاء ومرح، ينثر اليأس في قلوب الجبناء والمتخاذلين حول العالم، ينثر المسك والعنبر حيث ينبت الشهداء، ويزيد الصامدين الصابرين ثباتا على النصر إلى الممات. كان سامي ذاك الطفل الشقي ذو سبع سنوات تقريبا، ولربما عمره أقل من ذلك لكن من ذا الذي لم تشيخه حرب! يجلس سامي إلى ركام مسجد الحي الذي لم يتبقّ منه إلا صومعته شامخة كإصبع شهيد ارتفع عاليا ليوحد رب السماوات. سامي الذي خفت شقاوته ولان طبعه لهول ما رأى قلبه وما أدمى عينيه، سامي منكسر الطرف مغبر الشعر، تعب الملامح بالكاد يخرج بنت الشفة. اقتربت منه لعلي أسرق منه بعض الكلمات.

سامي كيف حالك! أنا مشتاق لأخي أحمد، وأين هو أخوك؟ في مخيم آخر أم نزح إلى الجنوب مع الباقي؟ لا، استشهد! وقبله أمي وأبي ورؤى أخيتي الرضيعة. حاله حال الكل، قلب مشتاق لحبيب استشهد، قلب يعد اللحظات لربما اقترب موعده مع الشهادة.

نصيبك في حياتك من حبيب *** نصيبك في منامك من خيال

لعل المتنبي يخبرنا أن كل هذا الألم والتعب هو فقط ثانية أو أقل في حساب الزمن الذي لا نحيط بعلمه ولا يخطر بخيالنا، {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5]، نحن نعد السنين وعدنا محدود وقليل، لعل أيامنا هذه حلم لا ندري متى نستيقظ منه وحالنا كمن قيل لهم {كَمْ لَبِثْتُمْ} [المؤمنون: 112]، أو لا نستيقظ منه إلا بأن يتوفانا إلى الأزل والدوام الحق. وليس لنا غير اليقين والصبر حتى نستمر وتستمر فينا الحياة.

اليقين أن تنسى إحساسك بالألم والنقص وقلة الحيلة، وأن تكمل المسير كما وكيفما كان الحال، وتترك الرب يتولى التدبير، وإن تدبيره خير لنا فيما ندرك وما لا ندرك. اليقين أن تُسلم روحك غير مبال بشيء فهي بيد الحفيظ، ورحمة الرحمان، وتيسير الرشيد. اليقين أن لا تبالي بكيد الخائنين والشامتين، فَهُمْ كثرة وأنت وحدك في درب يحرسه ربك، وأن لا تنتظر العون والنصر إلى من عنده وأن تجعل نصب عينيك قوله: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21] فلا شيء إلا به ومنه وإليه.

«التاريخ ليس ما تصنعه الصدف ولا مكائد الاستعمار، ولكن ما تصنعه الشعوب ذاتها في أوطانها» على قياس مالك بن نبي وكل ذي قلب وبصيرة فهم صنعوا أمجادا بلا معدات ولا تكنولوجيات حديثة، لا يملكون إلا الإيمان بربهم وعدل قضيتهم ونصرهم الموعود الآتي، ونحن لا نملك إلا الدعاء وصدق العهد مع الرب، فلا ملجأ لنا إلا هو، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]، ولنا خالص التسليم بقدرته وجبروته {إن بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج: 12]. فاللهم نصرا قريبا، وبالغاصبين بطشا رهيبا، ونسألك صبرا لا يخيب، فأنت الرحمان المجيب.