الجامعة والمجتمع على ضوء الحراك الطلابي الغربي

1٬089

الكتابة التفاعلية في خضم حدث ما يزال قيد الجريان أمر صعب، ولكنها ضرورة الإيضاح والبيان، وواجب التأريخ الذي يقتضي تسجيل الموقف للتاريخ، وتحديد المسؤوليات للعبرة والتنبيه.

منذ أسابيع برزت للعلن بشكل ملحوظ، دينامية احتجاجية وسمت إعلاميا ب “الحراك الطلابي الغربي”، دلالة على الاحتجاجات والاعتصامات التي تواترت في أكثر من 70 جامعة غربية دعما ومؤازرة للشعب الفلسطيني، ورفضا للانخراط الرسمي للمؤسسات الجامعية أو السياسية الغربية في دعم جريمة الإبادة الجامعية التي تحدث بغزة منذ السابع من أكتوبر 2023.

حاولت في هذا المقال، من خلال محاور أربعة موجزة، صياغة وجهة نظر تفاعلية مع طوفان من القراءات الموضوعية وغيرها التي تناولت الموضوع، كلها تحاول الإجابة عن سؤال: لماذا برز النضال الطلابي بالجامعة الغربية، و”خفت” بالجامعة العربية؟ وقد ظللت حريصا خلال تحريري لهذا المقال، أن لا أتجاوز الأسئلة الأولية لما تختزنه من أهمية بالغة في التأسيس لنقاش حقيقي غير متجن.

لماذا برز الحراك الغربي؟
لا يمكن للمرء الجدال في كون السبب المباشر لبروز الحراك الطلابي الغربي تمثل أساسا في التغطية الإعلامية الوازنة التي حظي بها منذ اللحظة الأولى لانطلاقه، ليس في الأمر تجني على خلفيات التغطية الإعلامية، ولكنها قراءة موضوعية لتفاعل إعلامي مستحق، فاحتجاج طلاب معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا المصنف أفضل بنية جامعية بالعالم حسب تصنيف “كيو اس” للجامعات، أمر يستحق الاهتمام في دولة تسخر كل إمكانياتها للنهوض بمنظومتها الجامعية وجعلها مصنعا خالصا للنخبة التي تحكم وتقرر في مصير العالم.

هذان العاملين المتمثلين في المكانة الرمزية والاستراتيجية التي تحظى بها الجامعة الغربية، فضلا عن فجائية الحدث بالنسبة للمتابع – حيث انطلق التفاعل الطلابي الغربي بشكل صدم الجميع بحيث خلق هبة استثنائية لم يكن يتوقعها أي كان بما في ذلك مراكز الدراسات بل حتى الاستخبارات في العالم-، ساهما بشكل كبير في إبراز الحراك الطلابي الغربي، وفرضه كحدث يشد الاهتمام، وهما عاملان من الواجب استحضارهما أثناء خوض “مقامرة المقارنة” بين الحراك الطلابي العربي والغربي.

الجامعة والمجتمع: الأدوار والمسؤوليات وحدودها
معضلة خطيرة تلازم الوعي الجمعي في مجتمعات جنوب المتوسط، تتمثل فيما أختار تسميته في هذه اللحظة: “تصدير المسؤوليات”.

ومن توابع هذا المعضلة، رسوخ شعارات تحتل موقع القدسية في الأذهان، من بينها مقولات “الجامعة نواة المجتمع / الجامعة مصنع التغيير/ الجامعة مجتمع مصغر”، إن هذا التناول البديهي والسطحي لفكرة غاية في الأهمية مثل فكرة صناعة التغيير، مع تغييب فكرة المسؤولية، مع الارتهان التاريخي للحظة سابقة في تاريخ الفكر الإنساني وتعميمها، والوقوف عندها مع عدم بذل أي محاولة في سبيل مساءلتها على ضوء الواقع ومتغيراته.

إن فكرة الطلاب هم صناع التغيير ووقوده التي شاعت منذ ثورة ماي 1968 الطلابية بفرنسا، وساهم في إشعاعها الغطاء النظري الذي وفره لها السوسيولوجي هربرت ماركيوز في تفاعله مع لحظة رومانسية، فاجأت العالم هي الأخرى في لحظتها وخلقت مزاجا عاما يحصر فكرة صناعة التغيير في طلاب الجامعة…

مقالات مرتبطة

عمّ تبحث؟

الأوعية النقلية

صُبابة الطفولة

لست في موقف المجابهة لهربرت ماركيوز، ولكنني أعرف كما بعرف كل دارس مبتدئ لسوسيولوجيا التغير الاجتماعي أن هربرت ماركيوز في واحد من آخر كتبه “نحو التحرر” أن ماركيوز لم يراهن على الطلاب كوقود لثورته الموعودة، ولكن أصبحت محركات الثورة، حسب ماركيوز، مختزنة في الفن والثقافة.

إن هذا التطور الحاصل في الفكر، هو طبيعة إنسانية، بل ضرورة إنسانية، وهي تعبير عن الخلل الخطير الذي قد تصنعه الأفكار وليدة الأحداث والواقع، لا المتحررة من عقال الزمن ومستجداته، فالعلم إمام العمل، وكل معرفة صنعها الواقع ولم ينتج متحررا عن الشروط الموضوعية فهي معرفة مظروفة قابلة للتجاوز بتجاوز ظروفها.

إنني مع هذا، لا أرفض فكرة كون الجامعة مصنعا للتغيير، لكن مع اختلاف في الرؤية، فالطلبة والجامعة هم موضوع التغيير وغايته، لا وسيلته. وبالتالي فإن أي تغيير يراد إحداثه في المجتمع فالطلبة هم غايته ومنطلقه لا وسيلته.

النضال لأجل فلسطين ولأجل الديمقراطية: الكيفية والغاية
“إن خير ما تقدمونه لفلسطين هو النضال ضد أنظمتكم الرجعية العميلة” عبارة شهيرة للمقاوم الفلسطيني جورج حبش، هل كان جورج حبش غير مبال لأهمية التحرر من الاحتلال الصهيوني، أم كان يعلم سبقا كما يعرف كل مدرك لحقيقة الصراع مع الكيان الصهيوني أنه صراع مع منظومة كونية متعددة الأذرع، ولا سبيل إلى دحرها إلا عبر رفع وصاية أنظمتها العميلة على أرض العمق الاستراتيجي لفلسطين المتمثل في البلاد العربية والإسلامية.

إن جورج حبش وهو يرسم هذه الخريطة لم يكن مثقفا أو مفكرا.. بعيدا عن ميدان الاشتباك مع الكيان الصهيوني، بل كان من رواد المقاومة المسلحة الفلسطينية، ومقاوما عاش مرارة النفي والسجن… ولكن الغاية الغالية تتطلب مهرا غاليا ووسطا عزيزا.

إن من عوامل قوة الحراك الطلابي الغربي، قوة الفضاء العام الذي ينتمي إليه.

إن الاحتجاج من الطبيعي أن يكون صوتا مسموعا في ظل بلد تسوده قيم المؤسسات، وللموقف والكلمة فيها قيمة ومكانة.

قرأت رأيا حول مسألة الاعتقال في ظل الاحتجاجات الداعمة للقضية الفلسطينية، قيل فيه إن الطالب الذي يعتقل في الغرب، مع إدانتنا لاعتقاله لأجل احتجاج سلمي، على الأقل سيتمتع بمحاكمة عادلة في ظل قضاء نزيه وعادل، أما الطالب الذي يعتقل في جامعة عربية فلا تدري كيف تحول التهمة إلى اتجار بالبشر أو المخدرات.

إن كل القرائن تشير إلى حقيقة مفادها أنه لا يمكن أن نحظى بجامعة قوية في ظل مجتمع ضعيف، ولا قوة للمجتمع إلا بديمقراطية حقيقة داخلية ودولة مؤسسات وشعب حر كريم.