غربة الشعوب

ما الذي يجمع شعوبنا ويجعلها متشابهة؟ ولماذا تغمرنا الغربة وسط بلداننا؟ يسألني غريب في العقد الثاني من غربة على بعد موت من رائحة أمه. في البداية، أحسست بضخامة السؤال أمامي، وضحالة ما أحمله من جواب. فكيف يستطيع المرء أن يجد إجابة مناسبة لسؤال يسري في باطنه كالدم؟

تمتت له في البداية ببضع كلمات، قبل أن أتوقف عن الكلام محرجا، لا كلمة تعبر من خيالي لتحقق المراد. فجلست هناك وحيدا في غرفتي أتأمل السؤال بداية وهو يحط كالطيف بجانب قلمي وورقة ناصعة تنتظر سواد الحبر ليداعبها. تأملتهما وتساءلت: هل بلداننا هي تلك الورقة ونحن القلم؟ هل أراضينا كتلك الورقة والشعوب أقلام؟ لكنني متيقن أن ما خاضته هذه الأراضي أعظم بكثير من بياض لون الورقة، من المشرق إلى المغرب، شعوب وأوطان، شعوب تائهة وأراضٍ أظلمها الفساد.

لكن، هل نحن أقلام مناسبة حقا لنكتب على أراضينا حلما ناصعا؟ هل نحن نستحق ونقدر أن نرسم طريقا مستقيما لأوطاننا؟ في كل بلد ينحر فيه الظلام جسد الوطن، هل نجد شمعة ما تضيء الطريق؟ رغما عن كل الرياح العاتية التي تحارب أي نور ليغدو باهتا منذ بدايته، أنا متأكد أن كل شعب يحمل في صدره حلما عظيما وأمانٍ متأرجحة بين ماض بعيد ومستقبل أكثر بعدا. لربما هذا جواب يستحق أن أكتبه لصديقي، لعله يصمت ظلاله.

ربما يجمعنا الحلم، ويجمعنا الانتظار المتعب، كما أن الظلام الذي يحيط أزقتنا يجمعنا، الضربات التي تنهال على ظهورنا، الأحذية السوداء وهي تركل أمانينا بعيدا. لكن، من المؤكد أن الحلم يجمعنا، ولا بد لي أن أخبر صديقي بهذا، ربما يرتاح صدره المتعب من فرط الضجيج. أما عن غربة تجتاحنا وسط بلداننا، تحت ظل وطننا التائه. فمجددا بعد أن اعتبرت نفسي منتصرا على سؤال صديقي الأول، أتأكد أن من يغترب بين أحبته لا فوز له ولا أمان.

أن تجلس وسط الساحة العامة تشاهد المارة وهم يتحسسون أثقالا تنهك قلوبهم، وأعينهم تفيض أمانٍ وأوطانا، أن تتأمل نفسك أمام البقال وهو يزن كيلوجراما من الأرز وبضع كلمات يتحسسها بين شفتيه بحذر، وفتى صغيرا يقف على بعد خطوتين منك ينتظر ابتسامة وصدقة. تتحجج بانشغالك مع الهاتف عنه، هل أنت محرج منه، أم أنك محرج مما تؤول إليه الأوطان بعد عمق الظلام التي تسرب إلى أزقتها الضيقة. يلقي البقال إليه قطعة سكاكر مطالبا إياه بالرحيل والغضب باد في مقلتيه، ليعود إليك مهديا إياك كيس الأرز مبتسما، يجتاحك حينها إحساس يطالبك بالتوقف عن أي شيء تفعله في سبيل مساعدة كل هؤلاء الجالسين على رصيف الحياة منتظرين يدا تستطب على أمانيهم وتشعل لهب الحلم في باطن صدورهم.

لكن، رغما عن ذلك، تواصل مسيرك الغريب نحو البيت، وصورة الطفل الصغير وهو يداعب السكاكر بيديه لا تفارق عينيك. في طريقك تجد مجموعة من الشباب يتظاهرون أمام مكتب حكومي ما، وأغانيهم تملأ الشارع، يسرق سمعك منهم بضع كلمات عن محاربة الفساد ومحاكمة المسؤولين والعدل لشهداء لقمة العيش. توقظ الكلمات فيك روح المواطنة وشعلة التغيير تبدأ في الاشتعال، إلا أنك تصمت كل ذلك فتواصل مسيرك نحو البيت وفي يديك كيس الأرز.

أمام المسجد الكبير قرب البيت، تتأمل مجموعة من النساء مصحوبات بأطفال رضع وآخرون في عمر البلوغ، ينتظرون وقت الصلاة، لعل أحد المصلين يتذكر الإنسان بعد دعائه الله أن يمنحه عمرا مديدا وخيرا وفيرا، وهو يتحسس مفاتيح سيارته كل حين وتفكيره منصب على موقف السيارات والحارس الأعرج الذي استأمنه على السيارة مقابل بضع قروش، وحين يولي مدبرا تاركا سجادة الصلاة وأثر السجود، يمضي من أمام النساء مستنكرا ما يفعلنه ومنفرا منهم.

وأنت، ما زلت تحمل كيس الأرز في يديك وتتأمل صاحب السيارة يلقي بالدراهم في يد الحارس الأعرج الذي يجري مترنحا يتبع يد الغني المتدلية من نافذة السيارة. لا تبتسم حين تشاهد المنظر، لكن تود كثيرا لو تستطيع صفع الرجل الدنيء، لتعانق الأعرج فتهديه ما قد يفرحه. لكنك مجددا تواصل مسيرك، لأن من واجبك أن توصل كيس الأرز لتنال عشاءك اليوم، هل أنت تحس نفسك مواطنا صالحا، هل تحس نفسك غريبا وسط بلدك؟ لا تجيب، بل تعود لتصمت كل ذلك، وأنت تقف أمام باب بيتك تنتظر أحدا يلبي النداء، وقبل أن تستطيع ولوج البيت تسمع صوت حبات الأرز وهي تهوي إلى الأرض مشكلة ذلك الصوت الحريري الجميل، لم تكد تفق من غفلتك حتى صار كيس الأرز سرابا، وبقي الكيس الورقي الفارغ في يديك كالأبله.

لم تستطع إيصال كيس الأرز بأمان إلى بيتك، لقد هربت منك حبات الأرز مستنفرة، لقد تركتك وفضلت الأرض عن يديك. تبتسم للمرة الأولى، لأنك قد وجدت في الأرز ما يعبر عنك، الأرز أحس بالغربة وسط الكيس ففضل الأرض، وتركك تحمل الفراغ. ربما أنت كالأرز، تود كثيرا لو تقطع السياج الذي يحيطك بأسنانك فتداعب موطنك الحقيقي، ولكنك لا تعلم ما موطنك بالتحديد. ربما يكون هذا جوابا مناسبا حقا، ربما نكون حبات أرز وسط هذه البلدان، وأكياس ورقية نراها ظلاما تحيطنا، ولا نتجرأ للحظة أن نحرك ساكنا لنقطع الكيس فنتنفس الوطن. ربما يكون هذا الأرز أفضل منا حالا، لكنك تفضل حالنا رغما عن كل شيء.

1xbet casino siteleri bahis siteleri