قراءة تأويليّة في رواية الانسماخ لفرانز كافكا
“استيقظ جريجور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجد نفسه قد تحول في فراشِه إلي حشرة هائلة الحجم.”
قراءة تحليلية في: ” الانمساخ “، للألماني فرانز كافكا، ترجمة الأديب النجيب الناقد السوري إبراهيم وطفي -رحمات ربي على روحه-، عن منشورات وطفي -سوريا-، الطبعة الأولى 2014
قد بلغ كافكا عَنان السماء وانتشرت أعماله كالنار في الهشيم حتى غدا يعرفه الصغير والكبير؛ وهو كاتب وُلِد في ( 3 / يوليوز/ 1883 ) في براغ -عاصمة الجمهورية التشيكية الآن-، ترعرع في حضن أسرةٍ يهودية من الطبقة المتوسطة، وعانى أوضاعًا مزرية تتأوى لها الأبدان وتأِن لها الأنفُس بعد أن ماتا شقيقاه وأخواته فيما بعد.
بعد دراسته الصارمة الشاقة في ثانوية تحوي النخبة الأكاديمية، لجأ إلى دراسة القانون في جامعة براغ وبعدها عمل في مجال التأمين وكَتب في الجرائد المسائية إلى أن انتقل سنة (1923) إلى برلين مركزًا على الكتابة؛ لكنه تُوفي بمرض السل بعد فترة وجيزة (1924) عن عمرٍ ناهز الأربعين.
بلغت كتابات كافكا آفاقًا واسعة بعد أن فارق الحياة، وذلك بفضل صديقه ماكس برود الذي حمل هم النشر، وقد ذكر ماكس أن كافكا لم يُنهِ أيا من رواياته، وأنه قد أحرق عددًا كبيرًا منها، وكان أكثر ما أحرقه مما كتبه وهو في برلين تلك الفترة التي صنعت شخصيته، وأبرزت ملامحه الروائية، وما علينا قوله.
”حياة الكاتب تبدأ بعد موته!“
له دستة من الأعمال البارزة نذكرُ منها: رسائل إلى ميلينيا، رسائل إلى الوالد، القلعة، في مستعمرة العقاب، المفقود، وتُعد روايته -الانمساخ- رحلة الإنسان الوجودية إلى العبث، فهي من الروايات السامقة التي تمثل شذرة من شذرات الفلسفلة العبثية.
يُقال: إن عتبات النص تضاهي محتوى المكتوب؛ أجل، ”إننا نحتاج إلى تلك الكتب التي تنزل علينا كالصاعقة التي تؤلمنا، كموت من نحبه أكثر مما نحب أنفسنا التي تجعلنا نشعر وكأننا قد طُردنا إلى الغابات بعيدًا عن الناس“؛ لننطلق من هذا القول المونِق ونقول: إننا أمام نوع من الكتابات التي تهز الكيان وتترك في النفس حزة السؤال ولظى الاستفسار، فهي لا كتابة عابرة سريعة الأفول بل لها غاية ما تبرح حتى تنفثها في جسد القارئ النموذجي -إن صحت الإشارة-.
عنوان الرواية (الاستمساخ ≈ المسخ) إذا ما حاولتَ رسمه في مُخيلتك بدا لك أن هناك نوعا من التحول سيحدث، عنوان غريب جذاب يأخذ بعين القارئ ويشد بيده ليقحم أنفه بين ثنايا الصفحات وما تبقى فعلى الأسطُر توليته، أما الغلاف فهو نوع من الترجمة لكتابة العنوان، رأس يمزج بين ملامح الإنسان العادي ووجه حشرة صرصور مع رجلٍ من أرجله يتصدر الأُفُق ويلوح به في الهواء (وما هذا إلا من خيال الرسامين أما أي حشرة فلا نعلم!؟)
الرواية جاءت لتحدث طفرة في فلسفة الوجود والعبث كونها تعكس الحياة السوداوية الحالكة، والأيام القاتمة الموغلة في المجهول والعدم، يصور لنا بؤريا فكره القانط وحياته المرة والبؤس الذي يعيش بداخله، فما تعدو سطرا إلا ووجدتَ فيه ألما وتشظيا، فهذا الرجل يؤمن بأن حياة الإنسان مسلوبة لا دور له فيها ولا سلطة له عليها في ممارسة ما يبتغيه خاطره وما يمليه عليه عقله وقلبه؛ هذا بالضبط ما نراه بين ثُلمة كلماته المشحونة بالصداع الداخلي واللاجدوى، فهي تحدث قعقعة وصعقة بتكسيرها لزمرة التفاؤل الخَسيس الذي يحمله الإنسان كزادٍ يستزيدُ به أوقات الشدة والمحنة، يعلنها مدوية أن الحياة لعنة لا أمل للعيش على خطاها والسير على دروبها وهي ممتلئة باللاشيء!
يدور محفل الرواية وأحداثه حول الموظف -جريجور سامسا- الذي فجأة وبدون سابق إنذار ولا إشارة تُنبه بما سيحدث، تحول ذات صباح إلى حشرة ضخمة، فقاده تفكيره إلى حُلم غير مألوف -ربما- سريع الزوال فما برح حتى وجد نفسه عالقًا في خِضَم جسد حشرة كبيرة؛ وهي بداية غريبة نادرة تنم عن تلاعب الحياة بالإنسان ولولبته في قالب دائري، فآل به الأمر جراء هذا التحول إلى حياة قاسية تصولُ في فلك الخنوع والرضوخ إلى ما ألم به من تغيير طارئ أحدثَ ضجة في عمله وفي بيت أسرته التي فقدت لب رزق البيت ونقطة دَخله.
مع كل يوم يجد البطل نفسه محاصرًا مكبلًا لا يستطيع الفرار والنفور من ذاك الجسد العليل الذي فقده حياته وطعن نظرته الاستباقية إلى قافلة المستقبل؛ نكنه من هذا القيد أن لا سر في الحياة علينا كشفه وإزالة اللثام عليه، وليس هناك ما يجعل من المرء يحيا من أجله ويلفظ النفيس من قوته في سبيل إرضائه ونيل الحظوة بين دفتيه، فهي حياة قائمة على اللاجدوى ضاربة في الفراغ.
مع توالي الأيام صار البطل عالة على والديه بحيث لا حراك له غير مكوثه في البيت طوال تناسل الأيام، مع وجبتين تلقيهما الأخت والخوف يعتريها، وتتركه يلتهم كذئب ضارٍ عانى ندرة الطرائد، مما أدى رزوحه ثقله على خاصة البيت، فكان مآله التخلي عنه؛ ويضمر هذا الفراق أن غاية المرء تكمن في عطائه والفائدة التي يجنيها القريب منه، وهو وضع مأساوي عشناه -وما زلنا- حتى أَلِفناه، العالم أغدى يعيش على الغائية والربح، فأبواه وأخته لم يستطيعوا الاستمرار في معايشة وضعه ومداراة مرضه المُلغِز رغم قربه السباق وجلدة عن لحمهم، ولعل قول أخته ”إن الأمور لا يمكن أن تستمر على هذا المنوال.. إذا كنتما لا تدركان ذلك فإنني أدركه، وأنا لا أريد أن ألفظ اسم أخي أمام هذا الغول، ولذا فإن كل ما أقوله هو هذا: «يجب أن نحاول التخلص منه»“؛ هذه الحيثيات تُرى طبيعية في صورتها وفي ألفاظها السهلة لكنها تمثل وتعرِب عن فلسفة قابعة في ذهن كامو أراد طرحها على أرض الوجود بطريقة خفية، لا يزيل العباءة إلا من فقه فلسفته الوجودية العبثية، إن قول أخته يستطيع القارئ الحذِق أن يؤلف كتابات وكتابات تأويليا منه.
يرى فرانز أن هذا المسخ ليس مجرد شقلبة في الخِلقة بل انعكاس كلي في الحياة المادية القاسية المتشددة، فهو ينظر إلى حريته التي استُلبت منه رغمًا عن أنفه بفكرٍ أسود، وتحولت إلى ما تصبو إليه القوة الكبرى وما هو في يدها سوى دمية يحركها ويتلاعب بها قدرها، أما الأيام التي لا تسير وفق حكم الأخلاق الإنسانية سوى عبث في عبث؛ وحقيقة ألم بها في قارورة نفسه ونظير ذلك أنه مات في أعين عائلته صبيحة فقدان عمله وهو واقع يصعب على النفس أن تدخنه.
كتابات دسمة قدمها كافكا ليترجم رؤيته للواقع وأخرى ليخبرنا من خلالها بأننا نسير وفق خطًى لا تتوافق مع ما نطمع بلوغه، وهي طريق عبثية لا جدوى منها، في أي لحظة قد يتغير كل شيء وتُسلب إنسانيتنا ..
ما الذي جرى لي؟ وما الذي أصابني؟ هذه أسئلة كانت تتخبط في ذهن جريجور ولم يجد جوابًا ولا مخرجًا ينقذه إلى أن مات تحت مكنسة الخادمة “انظروا لقد نفق، إنه يستلقي هنا وقد نفق بالكلية.”
قال السيد سامسا ”الآن يمكننا أن نحمد الله“؛ أي صلابة جأش وقوة تحملٍ تجعل من الأب يلتقي الخبر بكل هذا البرود وتِرداد الحمدلة على فقدان ابنه الذي لا ناقة له في هذا التحول.
كل هذا الإبداع غير المعتاد على مُخيلتنا نُسِج في رداء لغوي يميل إلى البساطة والسهولة -بل والتقريرية-، لكنها لغة يصعب على المرء غزل مثلها وكما يقول الجاحظ: ”السهل الممتنع“، أي السهل الذي لا يمكن مضاهاته أو تقليده، فترى النص بعين توهمك أن قدرتك تفوق بناء نظيره وحينما تحط القلم على الورقة لا تنتج سوى خربشات متنافرة وكُلَيْمات متناثرة.
إن هذا الرجل قد أفصح ما لم يستطع عليه الناس ونفخ في الكلمات مشاعره وحياته البائسة، وجد الحياة صخرة صعبة النحت والنبش على حراشفها، فكانت الكتابة خير مستودع يأوي إليه ويرثي عليه حاله؛ وهذا واضح بشكلي جلي في أن كافكا مرتديًا رداء جريجور سامسا كونه الناطق باسمه والمعبر عن انمساخه.