القراءة المنضبطة: بين التأثر والتأثير

يجب ألا نقع أثناء المطالعة في سجن مشاعر وأحاسيس الكاتب؛ فإذا كانت أحاسيسه صادقة سنستشف منها ما يلائم التركيبة العاطفية لدينا، أما إذا كانت كاذبة، فستكون قد وقعت في فخ احتيال الكاتب عليك، وحينها تصبح الكذبة عندك صدق مسلَّم به. وفي هذا لا أنكر مدى تأثر مشاعرنا يوما ما وتجاوبنا مع ما نقرؤه، مما غطى علينا نوعا ما الجانب التحليلي والنقدي لأنماط التفكير التي ترد علينا، وحتى النظريات والبدائل بل وخلاصات الحقائق التي تنقل يجب أن نمحصها وننظر إليها ونبحث فيها جيدا، لأن لكل كاتب منطلقات وخلفيات ينطلق منها، فلا نغفل هذا الجانب أبدا للخروج بمطالعة مدرة للفائدة والمعرفة، ولخلق وجاء بين ما قد يخفيه من تأثره بنمط فكري معين أو نحلة معينة، والذي يحاول فيه جاهدا على ألا يظهر في كلماته للموضوعية، بل وقد يعاني من أمراض نفسية عميقة تجعل أفكاره المطروحة يغلب عليها المزاج والمزج.

هذا المزاج الذي تستنسخ منه أرواحنا مزاجنا إما بشكل إيجابي أو سلبي، يجب أن نكون فيه أثناء المطالعة والقراءة على أعلى مستوى من اليقظة والتنبه، كيلا يحول عن منهج التحليل الذي هو ضرورة في القراءة الجادة. يقول الروائي الياباني هاروكي موراكامي صاحب الرواية الشهيرة الخشب النرويجي في حديث له عن تجربته الخاصة مع القراءة: “إن قراءة الكتاب المناسب في اللحظة المناسبة تستطيع أن تحدث انتعاشة في الدماغ، مما ينعكس بصورة مباشرة على مزاج المتلقي وتصرفاته.” واسترسل قائلا: “إن عملية اختيار الكتب أيضا تؤثر على مزاجنا بشكل أو بآخر، علاوة على أن هذا الوقع يستطيع أن يذهب أبعد من ذلك عبر إلهام القارئ بحلول شتى ومنحه التحفيز الذي يبحث عنه.”

وهنا أقف على لفظ التحفيز، وأؤكد على أنه يجب أن يكون تحفيزا مفجرا للفعل وباعثا على العمل، وليس ذلك التحفير التخديري الذي تحقنه بعض الكتابات وسرعان ما يتبدد مفعوله وتضعف فعاليته بمجرد التوقف عن تتابع القراءة فيه.

إن دور الكتاب البارز أن تنسجم روح القارئ مع ما يقرأ انسجاما إيجابيا يقيه من المطبات النفسية والتآكل الداخلي، ويقيه حتى من نفسه وإلى قريب من هذا المعنى ذهب الأديب الفرنسي-المغربي المولد دانيال پيناك قائلا: “كل قراءة هي فعل مقاومة، والقراءة الجيدة تقيك من كل شيء حتى من نفسك.” وفعلا تقيك من نفسك لكونها فعلا نبيلا يمثل خصيصة تجمعك مع العقول الطموحة التي ترغب في إنجاز شيء جدي واقعي ومقبول ذي أهمية حاسمة في الحياة، انطلاقا من طُرُز التفكير وتباين الأنماط الذهنية والسيكولوجية بين تلك العقول المبدعة ذات القدرة اللامعة التي تبعثها من خلال ما تكتب.

وعليه، فالاشتراك في حب القراءة والاطلاع والشعور الحميمي مع الكتاب، وكأن فيه روحا تناجي القارئ بين أسطر الكتاب يتعرف من خلالها على صوت الكاتب مرة أخرى في سفر آخر بأهمية حاسمة تحدثه وحده، وبكيفية تتفق مع بصمته العقلية التي لا تشبه بصمة سواها، وهنا سر جليل وجميل من أسرار القراءة المبدعة حيث يمتزج القارئ مع الكاتب في استنطاق النص المكتوب، واستكشاف أبعاد تختلف عما يتحصل عليه قارئ آخر ولذلك يقال: إن في قراءة كتاب رصين خلقا لأرواح كثيرة تجمع بين المزاج الإيجابي الذي يهيء النفس ويخصبها لبذرة المزج الواقعي لتتوازن كفتي الفكرة وأثر الفكرة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri