عراك إجباري

698

كلما ظننت أني تجردت من مشاعر تلك الأنثى الضعيفة التي يكسرها سماع خبر مأساوي في مكان ما، أو يخيب أملها صديق بخذلانه أو يصدمها قريب بهجران غير مبرر وبدون سابق إنذار، تختنق وترتمي هي وعواطفها المتلاشية في غيابات جب الأحزان من غير حول لها ولا قوة، تلك الأنثى التي يبكيها الفقد دما ويكسر قلبها تكسيرا. في كل مرة أغرق أكثر فأكثر تغلبني العاطفة وتهز دواخلي وكأنني أعيش الحزن لأول مرة، هشة أنا من الداخل ولا أظنني سأتخلص يوما من مشاعري المنفلتة تلك.

لا علاقة للواقعية بالأمر فأنا مقتنعة كل الاقتناع أن في هذه الحياة بقدر الفرح يوجد الحزن وبقدر المسرات توجد المآسي وبقدر العطاء يوجد الفقد. لكن في كل مرة أجدني أعاود الكرة وأنبطح أمام ضعفي البائس/ أواجه الحزن بمشاعر مهزوزة وقلب مهترئ وذاكرة تزيد الطين بلة باسترجاعها لكل المآسي الماضية لتكتمل الصورة التراجيدية وأضيع أنا داخلها مسلوبة حق وإرادة.

كثيرا ما كنت أتساءل عن إمكانية وجود تاريخ صلاحية للأحزان، عن وقت تقادم يحولها لذكريات صامتة أو ميتة؟ لا بأس في أن تسترجعها الذاكرة بين الفينة والأخرى بشرط أن تكون متجردة من كل إحساس. لكن دائما ما أصطدم بكونها تعود بالحزن ذاته والحدة ذاتها، فأجد نفسي في كل مرة مجبرة على استرجاعها بنفس الألم والبؤس وكأنها حدثت منذ يومين فقط، فتذب فيها الأحاسيس من جديد وتهطل في حضرتها الدموع هطول المطر في شهر يناير.

مقالات مرتبطة

ليس هذا وحسب بل يتمادى الضعف في كياني أكثر فأكثر ويتربع على عرش قلبي فأتحول إلى فتاة مكسورة وغاضبة في آن واحد، على الأقدار والأحداث والأشخاص. يرهقني حتما هذا الشعور الذي يعتليني وتصيبني بالاشمئزاز تلك العواطف المنصهرة بلا إذن مني ليس فقط لأنها تستصغرني أمام الجميع، بل لأنها تستنزفني وترجع بي خطوات إلى الوراء وكأني بها تجتثني من الجذور وتلقي بي بعيدا عما أنا عليه أو بالأحرى ما أريد وأحاول جاهدة أن أكون عليه.

أعتقد أن الطفلة بداخلي التي تأبى أن تكبر هي السبب، هي التي لا تريد تقبل حقيقة الرحيل أو الفقد أو الغدر أو أي مأساة أخرى تجعلها تعاني في صمت أصم، ولا أظنها تستقبل يوما. أشفق على سذاجتها أحيانا وأتأسف لها أحيانا أخرى على ما جعلتها تواجه في عالم الكبار، ذاك العالم الذي يختلط فيه الحابل بالنابل ويعتبر فيه الغدر والمكر وأشياء كثيرة من هذا القبيل على أنها أمور عادية تحدث على مرأى ومسمع من الجميع ولا من يحرك ساكنا، بينما أنا في قرارة نفسي أقيم القيامة وأقعدها وأنا مستغربة من ردة فعل الآخرين، فأعود لطرح السؤال مجددا، أهي المآسي المتكررة التي جعلت قلوبهم تبرد أم أن الخلل يعتريني وحدي لأني داخلي يأبى الاعتياد؟

فما عساي أفعل غير أن أتعايش مع مشاعري المنفلتة تلك وعواطفي الفوضوية، وأن أستمر في محاولاتي البائسة لترويضها على النحو الذي يقلل من وقع تأثيرها على دواخلي الهشة بالألم والبؤس الذي يفوح به العالم بصفة عامة ومحيطي القريب بصفة خاصة. على أمل اكتسابي يوما ما لمناعة اجتماعية تجعلني على الأقل أواجه بؤس هذا العالم الجائر وجها لوجه بمشاعر أقل صخبا وانفلاتا، يومها سأستطيع معاركته في حلبتي وبقواعدي غير آبهة بالنتيجة لأني على يقين أنه لن يكون العراك الأخير، تماما كرأي كاتب كنت قد قرأت له رواية كان عنوانها: “لن ينتهي البؤس”.