حديث ذو شجون: غفلة المثقف

التجارب البشرية ثروة معرفية؛ إذ في كنفها تتضح معالم مسارنا، مهتدين بإشراقات التاريخ وظلماته، زادنا في درب متشعب المسالك ضبابيّ الرؤى. دونها؛ عبثا نبحث عن شرارة في جمرة هامدة تحت رماد لتنير الطريق! إنه لغاية الخسران دفن تاريخ في غيابات الجب، فلا موردا متعطشا ليرتوي!

المساءلة التاريخية قنديل رحلة الاستغوار، بها يُنْفَضُ الغبار عن الحقائق المعتمة لتنبض من جديد. فالفكرة لا تموت، بل تهمّش وتغيّب لصالح نكسات سطحية لامعة في ظاهرها خاوية الجراب المضني، لا تظهر على سجيتها، إنما تبرز في سيرورة مضللة متسربة من كل منفذ، متصدرة بجمال مصطنع بريقه، فنصبها الناس تمثالا!

إن طبيعة الحياة المتدافعة تجعل لكل خطوة زلة وعلة، تزداد العثرات بطول الطريق، فلا بد مما منه بد؛ إيضاح الخطى وإبصار موضع القدم، فـ “لولا جناية العجلة والطيش. لصحّت العقول”. والمثقف منغمس في زخارف الضلال المتأنِّق بزينة الحضارة والمتستّر برداء الرقي! فما أكثر ما نفثت الأفكار الغربية ومن والاها نقيع سمِّها بين ظهرانينا، قاصدين من لا يزال في مهد طريقه ليكون ما يحمله كالعِلقة، وبالأخص عقول الشباب الحائر المندهش، كي تتخذ منهم دمى تصيخ لِغيِّهم وتنجر وراء مطامعهم الدنيئة ومقاصدهم المسترذلة. وَدُمًى لَمْ تَزَلْ تَسِيرُ اضْطِرَارًا *** في غُرُورٍ يَنْفِي المَسِيرَ اضْطِرَارَا

وها نحن في غياهب الدنيا، نبحث عن النور أمام غزو ثقافي غمرنا بقلق معرفي وفكري خلّف سيلا من الأزمات تتفاوت درجاتها دنوًا ورفعة، باسطا سطوته بدهاليز ماكرة مؤيدا للأخلاق متعطشا للمادة! فإن لم تكن لك مثبتات في زمن المثبطات، لا يراق وقتك على قارعة السفاسف ولم تنجر بعدُ خلف الماجريات؛ فاعلم أن السيل لم يصلك فقط، فلا تأمن على نفسك السلامة! وإذا عزمت الاستغوار في مسلك محفوف بالأشواك؛ موليا وجهك وجهة غير محتفل بما ستنال، بحثا عن حقيقة خالصة حُرّة لا ترضى ضُرة، وللحقيقة كبرياء يجعلها لا تقدم نفسها إلا لمن طلبها، كذلك الصّواب المحض دكتاتورٌ لا يقبل التفاوض.

وما طلب التجرد حقيقة إلا ظفر بها ومكنته من نفسها؛ ومهرها الجد في البحث وعدم التواني! كما لا مبلغ من تصويب صائب بنظرة قاصرة، كذلك الإقبال على تفكيك الأفكار ونقدها دون أدوات بحث حقة؛ تطفل يشاع في البيئة الضحلة! قد استشرى هذا الداء وتمكن، فكيف نغض الطرف، وعلى مرآنا هؤلاء صباح مساء؛ يضعون أهل المعلاة أسفل الثرى ويرفعون أهل المهازل والمساخر فوق الثريا؟!

مقالات مرتبطة

لا بد للناظر في أحوال وأهوال الواقع أن تخالجه غصة أمام هاته الصورة المعتمة، ويصيبه من حسرة ابن قتيبة في قوله “فَإنِّي رَأيتُ كَثيرًا مِن كُتّابِ أَهلِ زَمانِنا كَسائرِ أَهلِه قَد استَطابُوا الدَّعَةَ واستَوطَؤُوا مَركبَ العَجزِ وَأعفُوا أَنفسَهم مِن كدِّ النَظرِ، وَقُلوبَهم مِن تَعبِ التَّفكُّر حينَ نَالوُا الدَّركَ بِغيرِ سببٍ وَبلَغُوا البِغْيَة بغَيرِ آلَة؛ وَلَعمرِي كَانَ ذَاك فَأينَ هِمّةُ النَفس.” هذا في زمانه! فما ترك مثقّفو زمننا من قول، بعدما أحكم الوثاق من علية المنازل سفلة القوم، وهم ينظّرون من برجهم العاجي بنظرة استعلاء واستخفاف؛ كأنهم صعدوا لِيُرَوا لا لِيَرَوا!

من لا يتحرك يجمد، كذلك العقول التي في سبات طال عليه الأمد؛ فكرها يصدأ! وهناك عقول مشتغلة لكنها كالآلة؛ مدجنة، لا تسمع فيها إلا تردد صوت سائسها. هي غفلة تستوطن العقل، ولما تزال الغفلة المرخية بظلالها بنور الوعي؛ سنبصر أنوار الحقائق. وقد طال الليل الواقب، رجاؤنا في فجر قريب!

في غمرة الأحداث وغمارها، ما بين سطوع وانطفاء؛ يتذبذب نبض الأفكار في ساحة تموج بتيارات مختلفة السبل والمبتغى، يبحث الحائر عن ذاته، وكثيرة هي العثرات تتكرر في طيات سيرورة البحث؛ كأن المثقف يأبى أن يتعظ بمن سبقه موليا وجهه قبلة غير موليها! ينظر حوله فيذهله ركام الحطام الذي خلفه، كرماد تذروه الرياح، وما هي إلا أشلاؤه التي تساقطت في خريف عمره مجتمعة، فها هو ينعم بربيع يعلم يقينا أن له موعدا وأجلا، لكن طول الأمل مغرٍ! “وإذا أسأنا فابتلينا بتمام الغفلة فذلك ذلُّ الأبد”، لله در شيخ العربية محمود شاكر يصف هذا الحال بقوله: “يُصبحُ الزمان حُطاماً من الساعاتِ والأيام، ورُكاماً من الشهور والأعوام، وإذا بلغ الأمرُ بنا هذا المبلغ، فقد يكونُ من أكبرِ الجهل أن يُسمَّى هذا (غفلةً)، إنما هو ضربٌ من الموتِ يُصيبُ الحي، وينقلهُ إلى لَحْدٍ مُظلمٍ لا تراهُ العيونُ، وهو بعدُ مُقيم على ظهرِ الأرضِ يسعى أو يتحرَّك أو يتكلَّمْ!”

إن عتمة الغفلة وعتمة القبر سيان، والأولى أشد! يظل رجاؤنا في وعد الله المقرّر، حيث “لا بد للأمة الإسلامية من ميلاد؛ ولا بد للميلاد من مخاض؛ ولا بد للمخاض من آلام!” وغالبا ما ينبثق من ثنايا النهايات الحالكة؛ فجر بدايات لا يزول!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*1- عبدالعزيز الطريفي، العقلية الليبرالية، ص 17.
*2- العِلْقَة (بكسر فسكون): أوَّلُ ثَوبِ يُتَّخَذُ للصَّبيِّ، جاءت بمعنى أول الأفكار، لما لها من سطوة على الفكر.
*3- محمود شاكر، ديوان اعصفي يا رياح، ص 140، قصده أن هناك أقواما كثيرين كالدمى الخشبية يسيرها الممسك بخيوطها، لكنهم رغم ذلك يدعون غرورا أنهم يمشون بأنفسهم، كهؤلاء الذين ينفذون أجندات الغرب، وهم يدعون الحرية والوطنية والثقافة، وهم في الحقيقة دمى في أيدي الغرب
*4- أدب الكاتب لابن قتيبة، ص 7
*5- محمود شاكر، أباطيل وأسمار، ص 126
*6- محمود شاكر، أباطيل وأسمار، ص 441.
*7- السيد قطب -رحمه الله

1xbet casino siteleri bahis siteleri