الغربة

لعل أقسى غربة لا تتمثل في اشتياق مهاجر لرائحة الشوارع ونسيم البلد. إن اشتاق لهذا فلا بأس بعودة أو زيارة الحنين ولو لفترة. تتمثل أنواع الغربة الأصعب في أن تكون غريبا عن نفسك لا تعرفها ولا تفهمها ولا تتمكن من معانقتها واحتوائها، لا تنجح في تقبلها وتظل دوما في صراع متواصل معها. لا أنت مغير ما لا تحب ولا أنت تحنو عليها.

قد تكون الغربة أشد حين تصبح صفة رسمية لعلاقتك بمن كنت تهرب إليه من كل غربة وبمن تمسكت به يوم لم تكن تعرف أحدا وتخشى أن تتوه، يوم كنت ترى نفسك وحيدا وتبحث في كل اتجاه عن قشة تتمسك بها، وفعلا تمسكت بقشة لا بعلاقة حقيقية فانتهيت بتيه أكبر وَلَّد لاحقا قدرا من القوة.

الغربة مثلا هي أن تكون أحلامك التي ظننت أنك تعيش لتحقيقها وينبض قلبك لأجلها صارت لا تعني لك شيئا ولم تعد لك رغبة سعي إليها، فنسألك أكنت حقا مؤمنا بها مريدا لها أم أنك غريب عن أحاسيسك ورغباتك وأهدافك حتى عدم المعرفة الحقيقية بها. أأنت نفسك الإنسان الذي كان مليئا بالشغف سابقا أم أنك تغيرت تماما؟ أم أنك ما كنت ذا شغف حقيقي من الأساس؟

مقالات مرتبطة

كل أصناف الغربة هذه على اختلافها نحن قادرون على التحكم بها أو على الأقل النجاة من الشعور بالعجز الكامل تجاهها. فالبعد عن الوطن بلا إجبار حله زيارة أو عودة، وغربة النفس حلها انفراد وعناق طويل وحوار أطول. أما العلاقات تجارب نتعلم منها ثم نجد يوما شاطئا حقيقيا حيث نرسو وأشخاص قد يكونون كالوطن. والأحلام في إيجادها تحد والتشبث بها تشبث بالحياة يحدث بالإرادة والطموح لا بالتمني والانتظار.

يبقى صنف قاس أخير وهو غربة منفي من وطنه اعتداء، لا هو يستنشق رائحة ترابه ولا يقبل جبين أمه ولا يحضر جنازة والده أو زفاف أخيه. إنسان مكسور الفؤاد ممزق الكيان تائه لا يعرف سبيل نجاة. كل إنسان تم تهجيره قسرا وإبعاده عن حيث يسكن قلبه وروحه لا نهاية لعربته إلا بنهاية البعد، هذا إن لم تكن الغربة ستبقى قائمة إذا عاد ولم يجد غير الخراب، لا أهل في الانتظار ولا أماكن تصب بالحنين بل كل ما يرى يؤجج الغضب ولا يسمح لنار الأشواق أن تخمد.

مهما يكن لنتمسك بالأمل ونقول إن يوما ما ستنتهي الغربة بكل أشكالها، سنكون وطنا لأنفسنا وسنلتقي بمن تكون قلوبهم وطنا أخضر لنا. سنجد أحلامنا الحقيقية التي تستحق أن نسعى لها وعلاقاتنا الصحية التي تستحق كل العطاء منا. سنتخلص من السواد العالق بنا وبذكرياتنا وأعيننا وسنرى الألوان كلها والبهجة. سنألف الأوطان التي نعيش بها وسنجيد حمل المكان الذي أتينا منه في قلوبنا حتى إن هدم واحترق. سنتعلم كيف نبقي على معالم الجمال بداخلنا مهما حدث. وسنكون نحن الغريبين بإبداعنا وتفاؤلنا وإنجازاتنا لا بآلامنا.

1xbet casino siteleri bahis siteleri