رسالة إلى أختي… عروس الجنة!

العائلة الكبيرة والمتحابة لوجه الله هي فعلا نعمة من الله سبحانه وتعالى، خصوصا حينما تجد أنه لا زال لحد الآن إخوة يجبرون بخاطر بعضهم البعض، رغم كل الظروف، كما أنه من المريح جدا أن تجد السند والقوة من أقربائك وقت وهنك، أو مرضك أو فرحك. لذلك، لطالما أبهرتني العائلات التي لا تزال تحافظ على علاقات الود والحب بين بعضها البعض. لكن هل تدرون أن النعمة الحقيقية هي أن لا يستطيع أبناؤك التمييز بين حبك وحب أخيك أو أختك لهم؟ النعمة أن يحبك أحد كنفسه، أن تستطيع مناداته يا “أنا”.

يبدو أنكم تذكرتم شخصا ما وأنتم تقرؤون كلماتي الآن، ربما هو قريب، صديق، أخ أو ربما أخت كأختي؛ التي لطالما كانت لي سندا قويا وقت الضيق وملجأً دافئا من قساوة الحياة. لقد كانت أختي كالنسمة الباردة في اليوم الحار، كفرحة العيد. فهي إنسانة رقيقة القلب، عظيمة الروح وقوية الشخصية، بل إنها امرأة بمائة رجل! لن أنسى أبدا تضحياتها من أجلي ومدى تحملها لمسؤوليتي بعد موت أبي، فقد كانت لي أبا وأختا وحضنا دافئا. بفضلها لم أحس يوما بقساوة اليتم، ولا أحست أمي أنها أرملة.

كانت أختي أول وأفضل صديقة لي، كانت الشخص الذي أستطيع أن أناديه يا “أنا”. لم أكن أتخيل قط أن هاته السنة هي آخر سنة لها بيننا. لقد عادت من الخارج في بداية السنة لزيارتنا كعادتها الموعودة، غير أن هاته المرة كانت عودتها مميزة بشكل غريب. فعلى قدر فرحتي بعودتها إلى حضن وطنها وأحبائها، على قدر ما اجتاحتني تلك الأحاسيس الخانقة والغريبة التي لا تستطيع معرفة سببها حتى لو حاولت.

لقد استغليت كل لحظة منذ وصولها إلى أرض الوطن للقيام بكل ما نحب. فقد سافرنا، والتقينا بأصدقائنا، تبادلنا أطراف الحديث بتفاصيل مملة وأمّنا بعضنا البعض على أسرار جديدة كما جرت العادة. إلا أنه جاء يوم تعيس فسر أحاسيسي الغامضة، ذلك اليوم الذي انهارت فيه على حين غرة ودون سابق إنذار. لنكتشف بعد ذلك أن مرضا خبيثا ينهشها، ما كدت أتقبل خبر مرض نصفي الثاني الذي نزل علي كالصاعقة، حتى أسلمت روحها لبارئها، لقد تمكن المرض منها وخطفها الموت من بين يدي في فترة قصيرة، لم أملك الوقت الكافي لأودعها أو أسمع كلماتها الأخيرة لي، لم أتمكن من رد القليل من جميل أختي، ليتني كنت أستطيع أن أكون لها ترياقا أو دواء لدائها، ليتني كنت أستطيع منحها نصف جسدي لتعيش به، لو استطعت حقا، لما ترددت للحظة واحدة، ليت موتها كان كابوسا أستطيع الاستيقاظ منه يوما ما.

أنا اليوم أكتب رسالة إلى أختي راجية أن تسمع كلماتي من السماء، داعية أن تكون في جنات الفردوس بجانب الأنبياء والصالحين. فاللهم اغفر لها ذنوبها وارحمها برحمتك الواسعة واعف عنها وأبدلها دارا خيرا من دارها يا أرحم الراحمين. أتمنى فعلا أن تصلك كلماتي بجانب دعائي، فقد اختلطت علي الأمور والمشاعر بعد موتك يا أختي. عندما أتذكر أيامنا معا تغمرني السعادة والطمأنينة، لكن لا أكاد أفرح بذكرياتنا حتى يخالجني حزن عميق، ثم شعور بوحدة قاتلة؛ مهما كان محيطي مكتظا بالناس في تلك اللحظة. عزيزتي الغالية، لا أخفيك سرا لكنني أحس أن عقلي على حافة الانهيار منذ رحيلك المفاجئ. أختي أنا لست بخير ولا يزال واقع صدمة غيابك يرافقني طيلة يومي.

لقد تغيرت عاداتي وعياراتي؛ منذ ذلك اليوم المشؤوم الذي قبلت فيه خدك البارد لآخر مرة. منذ تلك اللحظة التي حاولت فيها تخزين رائحتك الطيبة كالمسك في ذاكرتي. كنت أعلم جيدا أنها آخر مرة لنا معا. أتدرين يا أختي أنني أعُدُّ صباح كل يوم عدد الأيام التي مضت بدونك. لا أدري لماذا أرهق عقلي بالحساب كلما استيقظت من النوم. أتساءل دائما إن كان عقلي الباطني يتظاهر بعدم المعرفة، رغم أنه يعلم جيدا أن رحلتك هاته المرة هي تذكرة بدون عودة. أظن أنها مسألة اعتياد فقط، ذلك لأنه ألِف أن يعد الأيام والشهور قبل مجيئك من الغربة، ذلك لأنه كان يتذكر جيدا تواريخ رحلاتك. ذلك لأنني أحببتك بكل جوارحي، بعقلي وقلبي وكل باقي الأعضاء. فمن الطبيعي أن تتذكر حواسي كل ما يتعلق بك.

عزيزتي الغالية: مهما غبت عن ناظري، ستظل صورتك راسخة في قلبي دائما ومشاعري لك لن تموت بموتك يا غاليتي ويا وحيدتي. كل لحظة أمضيتها معك كانت رائعة، سواء كان اليوم فيها جيدا أو سيئا، لأن اليوم الذي كنت تكونين فيه بجانبي كان ولا بد أن يكون جيدا بما يكفي، لقد أحببت كل يوم وكل لحظة معك يا أختي!

لا تقلقي يا جميلتي، فأنا وأمي في أمانة بعضنا البعض، سأسند ظهري بظهرها ولن أفلت يدها أبدا ما حييت. أما أنت أيتها الابنة البارة: فأبي في أمانتك، أعلم جيدا أنك لا تحتاجين وصاية ولا تذكير فلطالما كنت ابنة جيدة تحسن الرعاية والاهتمام بالآخرين. أختي العزيزة؛ نشهد لك أنك كنت خير الأخت والأم والأب والعمة والصديقة الوفية، تغمدك الله بواسع رحمته ومغفرته.

يقال إن الإنسان يموت مرتين: الأولى عندما يسلم روحه للخالق العزيز والثانية عندما ينساه أحباؤه. لذلك يا زمردتي النادرة؛ مهما طال غيابك ستظل جوارحنا تسأل عنك دائما؛ لأنك حتى وإن جربت الموت الأول سأحرص حرصا شديدا أن لا أدعك تموتين للمرة الثانية، لأن المرة الأولى كانت مفجعة وقاسية بما يكفي!

أيا كان الشكل الذي يتخذه الوداع، فلا بد له أن يترك في قلبك ندبا؛ يعذبك، يشعرك بالألم، يحزنك ويشعرك بالوحدة. لهذا السبب لا أحد يريد أن يضطر إلى وداع أحبائه، لكن للقدر رأي آخر في الموضوع. لذلك أحسنوا واهتموا بمن تحبون ما داموا إلى جانبكم، فإن الوداع والاشتياق أمَرُّ من نبات الصبر وأحمى من لهيب النار. فأحيانا، ستظن أنك نجوت من ألم الفراق، حتى تهزمك الذكريات في لحظة سهو، فتأتيك كأمطار الصيف على شكل كلمة، أغنية حزينة أو رائحة ستتذكرها حواسك فتوقظ فيك كل ما فات وذبل.

1xbet casino siteleri bahis siteleri