في التنبيه والنّباهة ومنبهات أخرى!

ذهبت العبارات، لم تكن هي من خانت، ولكنه القلم، أو ربما هي اليد التي تحمله، تلك اليد التي أصابها عطب في المشاش، وخدر بالأنامل، فأصبحت لا تطيق للحرف وصفا، ولا تدرك للكلام رسما.

ذهبت الإشارات، وما الذي يبقيها إن كان وعاء الفهم قد أصابته ثلمة تلو الثلمة، وصدع يتلوه الصدع حتى أصبح لا يحفظ من المقال نظما، ولا يعي من الإشارة لمعا. وهل من الممكن أن تبقى؟ وما الذي يبقيها؟

تجلس في المقهى بعيدا عن الضوضاء لعلك تحظى بلحظة صفاء تحدث فيها الروح بعضا من المعاني التي اختلجتك وأنت في خضم الكدح اليومي، فأرجأت خطها حتى تلك اللحظة السعيدة.

مقالات مرتبطة

تطلب من النادل فنجان قهوة وتفتح حاسوبك، ثم تفرك كفيك في سعادة غامرة كأنك طفل يتهيأ لفض هدية، وتكاد الأنامل تنهال على اللوحة بنقرات متتالية لتدبج مفهوما أو ترصع قصيدة، وفجأة ينبعث رعاش الهاتف الغبي يزلزل المائدة من تحتك كأنه يذكرك بيوم الحشر، وعندما تطالع المحتوى على الشاشة مفزوعا كأنك ستتلقى نبأ وفاتك، تجد اقتراحا بمباركة عيد ميلاد فلان كأنه ابنتك التي قد تصاب باكتئاب حاد إذا نسيت يوم ميلادها. وما شأني بفلان وميلاده؟ وهل سيقرأ عبارات المباركة التي سألصقها مقطوعة مما يروج من كلمات منمقة تنسى أحيانا أن تغير فيها حتى الاسم؟ وهل سيغضب إن لم أرسل له تهنئة ولم يجمعنا يوما حديث ولا مجلس سوى هذا الوهم المرصوف على الأثير؟

إن رنات الهاتف كفيلة بهدم صروح من الأفكار كزلزال يأتي عليها من القواعد، وتنبيهاته اللعينة تنهال على الروح من كل حدب وصوب، مثلها في ذلك مثل وساوس شيطان مريد يأبى أن يدعك وشأنك حتى يوقعك في شراكه، أويصرفك عن لحظة صفائك.
لحظة الصفاء خطيرة على رحى الاستهلاك التي تطحن الإنسان طحنا، وأخطر ما فيها سؤال المآل والمعنى، وهما نقيضا المادة والمبنى، قطبا رحى الاستهلاك. فإن جلست تفكر في غير سيارتك التي تقادم بها الحال، وصلتك تنبيهة بصور عربات معروضة للبيع تفاجأ بأنها على ذوقك وفي حدود إمكانياتك، وأنت لا تدرك قوة الرياضيات ودقة الخوارزميات التي أصبحت تسبر أغوار نفسيتك، وتعلم منك ما لا تعلمه أنت. وإن أردت أن تتدبر في غير برنامج نهاية الأسبوع، طالعتك صور صديق يقضي بضعة أيام في منتجع سياحي، وتوجب عليك برسم العقد الوهمي بينكما أن تنقر زر الإعجاب لئلا يظن بأنك غير مبال به، ثم بعدها اقتراحات وبرامج قد تعجبك، أو قد أعجبتك بالفعل.

يجب أن تبقى هنا، متسمرا أمام شاشة هاتفك، وتنهال عليك العبارات والإشارات التي تبلد إحساسك، وتخدر إدراكك حتى لا تفلت من قبضة الاستهلاك، وإذا ما صدرت منك مقاومة للحظة، اعتلت قائمة التنبيهات رسالة نصية تعلن على إثرها استسلامك: “لا تنس الخبز!”