الكلام ليس ملكا لأحد، وما أن تُقال الكلمات فتصبح اهتزازات وموجات، أو توثّق على القراطيس رموزا ورسوما، حتّى تنعتق من أُسر قائلها وتنطلق حرّة طليقة عبر الأزمنة والأمكنة. ومنها من تفرط في الحريّة حتّى ترديها الأخيرة هباء لشساعة الأثير اللامتناهي، ومنها من يضيق على استيعابها الفهم فتتقزّم أبعادا لامتناهية في المجهرية، ومنها ما يكتب لها القرار عند عقول واعية أو قلوب داعية.
ينبغ الشّعراء ويبدع الخطباء ويبرع العلماء ثمّ يقولون، والقول مخاض والكلمة جنين. فما إن تخرج للوجود حتّى تستنشق نفس الحريّة، فتصبح قائمة بذاتها مستقلّة عن أمّها لا تربطها بها سوى روابط البرّ والاعتراف بالفضل. والقصيدة والخطبة والمصنّف عبارة عن كائنات نورانية أو ظلمانيّة، وهي تسافر عبر الوجود متجاوزة القائل و الكاتب و المعبّر و الملقي، مكتسبة من الأصل إرادة فعل يكون لها به معنى، و من الكلام ما أحيا و منه ما قتل. و هكذا إن وجدت الكلمات وعاء يلائمها كان أحقّ بها من غيره، فتملأه من المعاني فيوضا قد يستوعبها أو ينشقّ من فرط ثقلها عليه، ولكنّها لا تلبث تغادره إلى وعاء ثان وثالث حتّى تفنى بفناء الوجود.
ولمّا كانت الكلمات أرواحا وأشباحا، فقد كان منها العذب واللّين، والخفيف والثّقيل، والمنير والمظلم. ولكنّ منها أيضا نوع غريب الأطوار، ماكر السّبل، مستعصي على الفهوم، وذلك ليس لعلوّ شأنه ولا لسموّ غايته، وإنّما هي أسماء أعطيت من الدّهاء ما يجعلها تستهوي الآذان، وتحيّر العقول وتذهب بالألباب. ولم يخلو زمان من هذا الصّنف الّذي اتّخذ أشكالا من القول وألوانا من التّعبير. ومن البيان سحر، ومن السّحر بيان.
ومن الكلمات تمائم وعزائم مستوحاة من أعماق الضّعف البشري وقلّة حيلته. همس ونفث من وحي أباليس عجزت عن مراوغة الشّهب في الآفاق، فأقامت بالسّبل مترصّدة لمحبّ لا يبادله المحبوب حبّه، ومدير لا يهاب موظَفوه نظرته، وعقيم خافت أن تُنبذ، أو شيخ أراد أن يعبد. هوان يلتمس له بضعة كلمات، ولكنّها ليست كالكلمات.
ست ست ست
وشم على الجبين، من رآه أدرك من يكون، و من لم يره احترق بالماء.
اطلب التّسليم و تربّع أمامي، و أطرق رأسك خشوعا و هيبة في حضور من انسلخ منها. قبل ذلك عليك أن تأتيني بحليّ أهلك، و خذ هذه القبضة من أثر الرّسول، تناولها إذا وقب الغسق، وكذلك سوّلت لي نفسي.
و من الكلام ما هو بمثابة فتيل يوقد جذوة الرّوح بعد السلب والألم، فلا وجد بدون فقد، و لا عطاء بدون أخذ، و لا بيع بدون عربون صدق، و لا لذّة بدون تعب. ألم بالصدر، ليس بنوبة قلبيّة و لا التهابات رئوية، بل لا تكاد تجد في قواميس الطبّ و مقالات الأطبّاء وصفا له و لا تقعيدا سوى أنّه متلازمة أغفل الأساة ذكرها، أو ربّما عجزوا عن وصفها كما عجز الأدباء عن و صف عذاب النّار، فإن هم نطقوا بما لا يوصف كانت مثل شطحات أخي معرّة، أو هرطقة سمّاها أحدهم “كوميديا”. عجز يوحي بالسخرية لكلّ من قصر عن إدراك ما لا يفهم، و عن فكّ رمز المطلسم.
ومنه ما هو خواطر غيبية أو لمسات فوقيّة، لا يعيها سوى من ألمّ به اعتصار بالصدر في ليلة باتت عيناه ترقب النجوم، يطاولها البصر ولا تلمسها الأنامل، مثلها في ذلك كرؤيا وليّ يرويها لمن غاصت أذناه في الأوحال، يتنازع جناح بعوضة والآخر شملته أجنحة ملائكة الرحمن. أوجاع مخاض لم يدرك سوى نصفه، وآهات روح لم تسمعها سوى أذن واحدة.
و من الكلام الصَمت.