في المبضع والتحليل النفسي… وأدوات أخرى

يقال بأنّ “هالشتد” أحد أعظم أطبّاء أمريكا في القرن التّاسع عشر، كان مهووسا بإثبات نظرية ابن سينا في الأخلاط. فقد كان يؤمن بأنّ انتشار الأمراض ناتج عن تراكم المرّة الصّفراء، أو المرّة السّوداء، أو الدّم، أو البلغم.
ولمّا كان السّرطان مرضا مثل باقي الأمراض، كان لابدّ أن ينتج في نظره عن خلل في مجاري السّوداء.
أمضى “هالشتد” جلّ حياته يحاول تفسير سبب انتكاس المرض الخبيث وانتشاره السّريع في الجسم مع استئصال الأورام الظّاهرة، فكان يعمل المشرط في كلّ الأعضاء بغية الكشف عن شعب السّوداء. وقد وصل به الأمر أحيانا إلى بتر نصف ذراع أو حتّى نصف جذع النّساء اللّواتي يعالجهن من سرطان الثّدي. كانت تلك هوايته إلى جانب حقن مخدّر الهيروين في عروقه، يرجو بذلك اختراق سقف ذكائه الخارق ليستشفّ الغيب في ثنايا اللاّوعي.
أمّا “بابنسكي”، عالم الأعصاب الفرنسي، وأستاذه “شاركو”، فيحكى بأنّهما قاما بتشريح مئات الأدمغة الباريسية في القرن التّاسع عشر، حتّى يتسنّى لهما تفسير الأمراض العصبيّة متوسّلين في ذلك الكشف عن العلل التّشريحيّة، لكن ذلك لم يمنع الأستاذ من امتهان التّنويم بالإيحاء، كوسيلة شبه سريريّة لعلاج ما لا يمكن تفسيره تشريحيّا كنوبات الهيستيريا.
وهكذا أصبح المبضع صولجان الملوك الجدد، وأمسى المحجم جوابا لكلّ شيء. فإذا عظم الدّاء، واستفحل البلغم، وأوشك المحموم أن يسلم روحه، فالدّواء جرح بمشرط، وإذا توارى العضو عن النّظر خلف جدران صلبة من عظام، أو ستائر سميكة من جلد ولحم، فالجواب يكشفه شقّ الصّدر أو بقر البطن. وإذا تراكمت الصّفراء حتّى كاد الكبد يتصدّع من فرط الكمد وشدّة الحزن، فالسّعادة في الفصد.، وإذا انفقأ قرح، أو نزف جرح، أو أشكل تفسير وشرح، فالحلّ دائما شرطة محجم ينساب على سطح الجسم في ليونة ولطف، مثل مركب يشقّ سطح بحر هادئ، وبعده تعود المياه من ورائه لتلتئم في استكانة وتلقائيّة.
المبضع آلة لطيفة وحسّاسة جدّا، وهي من أروع ما شحذت أنامل البشر، فتجده يباشر الجسد كقبلة حانية تلفح بحرّها الإحساس قبل أن تلامس الشّفاه البشرة، ويشقّ بوحي برودته الجلد من قبل أن يفعل الحديد، حتّى إذا تمكّن من  الأدمة، كفته ضغطة يسيرة حتّى ينساب متسارعا بين لحم ودهن لرفع السّتار عن الأحشاء، شأنه في ذلك شأن ثوب من حرير يكفيه فكّ الزّمام حتّى ينساب متلهّفا لإسقاط الرّداء.
كلّ شيء قابل للتّشريح، وليس أفضل من النّظر المباشر إلى جوهر المشكل وأصله. وفي الجرح والفتق والفصد حلّ لكلّ شيء، وجواب عن كلّ سؤال، ليس في الطبّ فقط، بل في كلّ أمر استشكل على البحث والتّمحيص، وكلّما أخفق  النّظر في تبصّر ما وراء الحجب الكثيفة، وفلّت صوارم المنطق عن اختراق معضلات العلم أو التّكهن بمدارك النّصوص، فالحلّ هو مبضع التّفكيك والتّجزيء قبل إعادة البناء والرّتق بعد الفتق. ثمّ لا ضير، مع كلّ ذلك، من بضعة شروخ وندوب، أو حتّى البتر إن لزم الأمر، فلكلّ جراحة خطرها، ولكلّ غارة فتح شهدائها. وإذا عزّ الغيب واحتجب، فالقصور في شكل المبضع أو في طريقة الفصد، وليس في مهارة الجرّاح أو ذكاء العالم المفكّك. وما هي إلاّ أيّام حتّى يكتشف الحلّ، وينكشف المضنون.

لم تكن تلك البداية، بل كانت هناك، عند “لا بيتيي سالبتريير” أو “لا بيتيي” اختصارا. مستشفى الرّحمة، أحد أكبر وأعرق المستشفيات الباريسيّة.
مقالات مرتبطة
كنيسة، فمأوى، فمارستان، فسجن، فمستشفى وجامعة. ومؤمنون، فمتسوّلون، فمجانين، فثوّار، فمرضى وعلماء. وقسّيس، فأخت، فجلاّد، فسّجان، فطبيب و أستاذ. مكان يحكي لك القصّة من البداية، حكاية باريس وفرنسا، وكلّ أوروبا.
في البداية حكم الملوك والقساوسة حينا من الدّهر، فكان النّاس صنفين، مؤمنون و مهرطقون، وجميعهم في نظام الإقطاع متسوّلون. فإن كان المتسوّل مؤمنا فله في “لا بيتيي” رحمة ومأوى من البرد والجوع وكنيسة للصّلاة.
وإن كان من المهرطقين وممّن لا يرضون بالبابا مخلّصا، وبالملك حاكما باسم الربّ، ففي “لاسالبتريير” مكان للعلاج، ولعلّ في السّوط والخازوق والكلاّب دواء للممرور، وشفاء للسّاحرة المشعوذة الخارجة عن سلطة الرّجل.
وكان الجنون الأكبر، وكانت المذبحة، واختنق آخر الملوك بأمعاء أخر  القساوسة، وأصبح عقلاء الأمس هم المجانين الجدد، وأسلم الجّلاد رأسه للمقصلة، وارتدى السّجين من جلده بردة النّصر. عندها أمسى كلّ من لا يسبّح بحمد الحريّة ويصلي عند محراب اللاّئيكية خارجا عن الديّن الجديد، و مشعوذا من مخلّفات العهد المقيت.
وفتحت “سالبتريير” أبوابها للمجانين الجدد. ولمّا كانت الثوّرة استبدالا وبدلا، كان لابد من تنميق مصطلحات للعهد الجديد، وإبداع طقوس لعلاج الخارجين عن تعاليم “لا سيونس”. وهناك عند قبو الكنيسة، والّتي أبقي عليها عمدا وعبرة لمن يعتبر، جلس أحدهم  يراقب المسجونين بعين علميّة ناقدة، وأخرى أبويّة عاطفة كتلك الّتي كان ينظر إليهم بها الرّاهب في زمان ليس ببعيد. وبعد التّقليب والتّمحيص، وتسجيل الملاحظات وشطبها، والقراءة في كتب القدماء وركمها، وعلى مقربة من مذبح الكنيسة لاحت  ل”بينيل” فكرة كوحي من السّماء وهو يدير ظهره للصّليب.
وكان البديل، وردّدت الجوقة ترانيم النّشيد القومي عندما لاح حلّ المعضلة، وأصبح المجنون مريضا عقليّا، واستبدل الخازوق بعد حين بالصّعق عندما حلّ زمن الكهرباء. أنارت باريس بأنوار الآلهة الجديدة، وأصبح من في قلبه ذرّة إيمان بما وراء الحجب الكثيفة مريضا نفسانيا، ومسكينا صبورا يحتاج إلى مساعدة.
وأقيم صرح الدَين الجديد.