قراءة في رواية عذراء سراييفو: آهات بوسنية بقلم مغربي

1٬659

لقد دأبت الرواية التاريخية على أن تقدم لنا أحداث التاريخ في قالب إبداعي، يُغنيكَ أحداثاً ويُمتعكَ إن كنت تجد كتب التاريخ جافة المُحتوى، ولكن الذي لا تتفطن له، وقد يتناساه كل قارئ، هو مقدار ما تكبده مَن ألَّف تلك الرواية من مشاقٍ ليُجمِّع ذلك القدر الهائل من المعلومات ويدقق في مصادرها المتعددة، وَيُرجح الرواية الأصح، ويطرد ما علق بها من شوائب ومغالطات، ناهيك عن اختيار الطريقة الأمثل لسردها وفق حبكة ماتعة، ولا يَعلمُ المخاض العسير الذي يعيشه الكاتب، ولا الولادة القيسرية التي تنتج أفكاره إلا من مارس الفعل الكتابي.

لطالما قرأتُ كتبا تاريخية محضة؛ لَهفةً في معرفة مجريات ما سبق، ولطالما استشعرت ذلك الجفاف فيها، قرأت تاريخ الأندلس فلم يروِني كما روتني “ثلاثية غرناطة” لرضوى عاشور، كنت أرى نفسي في البيازين، متنقلا بين غرناطة وعين الدمع، وكأني أرى سقوط غرناطة، آخر حاضرة إسلامية، رأي العين. قرأت سيرة ابن عربي في عدة كتب سير، ولمْ أرَ نفسي كأني أكلمه وأسافر معه من قرطبة إلى دمشق وأشهدُ حِلَقَهُ بمكة؛ إلا حين قراءتي لرواية “موت صغير” لحسن علوان.. وهكذا دواليك تسعى كل رواية تاريخية أن تُمتِعكَ وتُعلِمَك في الوقت ذاته.

وكَغَيري من مواليد تسعينيات القرن الماضي، كبرنا فسمعنا بالإبادة العرقية للمسلمين في البوسنة والهرسك، وكأي إنسان لا يحتمل الجهل بطبيعته، تذهبُ لتبحث، فلا تجد حينها سوى مقالات هنا وهناك، تملؤك معلومات جافة، قد لا تعكس بدقة تفاصيل ما عاناه الناس في سيريبرينتشا، وما تكبدوه من طحنِ رحى في البوسنة وباقي المجازر.

​لقد حمل الأديب محمد غالمي، وقائع هذه المرحلة على عاتقه، ورعرعها بين ثنايا عقله، وشغاف قلبه، وهو المغربي المنحدر من مدينة قصبة تادلة المغمورة.​

لقد اهتم الروائي محمد غالمي بذاك السمت التاريخي في أعماله، فله قبل “عذراء سراييفو”، رواية “نزيف القناديل” التي يبسط فيها رِداء حقبة الاستعمار الفرنسي على منطقة قصبة تادلة التي عاش بها.

تقرأ “عذراء سراييفو” وكأنك تسرح في العاصمة البوسنية، فالوصفُ فيها يحملك إلى جنباتها، ويجول بك في ثخومها، تقرأ فتغيب في عوالم الرواية في نقلة سحرية للزمان والمكان.. تُحس بوقع إطلاق النار، وتسمع دويه فتفزع كفزع أهالي سيريبيرينتشا، وتستشعر صوت سيارة العسكر وهم يمشطون مكانا في دورية مراقبة.. تتألم لكل تقتيل، وتذْرِف لكل تعذيب طال شيخا أو صبيا، وتغضب لكل اغتصابِ فتاة مسلمة، ولكل تحريق وتنكيل..تسمعُ بموقعة البوسنة والهرسك، وبما عاناه المسلمون من إبادة جماعية هناك، فتمُر على الخبر دون أن يحرّك في دواخلك شيئا، لكن إذا قرأت الرواية فسيأخذ محمد غالمي بيدك ويَصعد بك قمة الجبل ليُطلعك على مقابر الإبادة الجماعية، ستشتم روائح الجثت المنبعثة من هناك، وستحس بدبيب كل روح ما زالت تنبض بآخر سكراتها قبل الوداع، سيفتح عينيك على كل صفعة تلقاها مسلم، وسيُجلِسك على كرسي لتَشهدَ تحقيقا مرفوقا بتعذيبات واعتقالات.. وما نفعُ العمل الأدبي إذا لم يُوغِلك في ثناياه، وهنا يَشرُفُ كاتبٌ على كاتب.

إن الذي يُعجَب بعمل ما، أو فكرة ما، عموما، يتمنى لو أن العالم كله تبناها، يودُ لو يأخذ مكبر صوت فيجول مرددا لها في أرجاء المدينة والأسواق.. وإعجابي بهذه الرواية يبلغ مني لو أني ألقمتها كل شخص جالسته، فأحدثه عنها وأسرد دون كلل ولا ملل، ولكني لست غرا حتى أحرق عليكم أحداثها جملة وتفصيلا.. فإني أكتب هذه الكلمات لأشفي غليلا داخلي حول الرواية، فما كُتب عنها لا يعدو أن يكون نزرا قليلا لا يعكس قوتها اللغوية والتصويرية، وقيمتها التاريخية.

​إن لمطالعة الروايات متعة لا يعرفها إلا قارئوها، والرواية المُبهرة تطوي لك الزمان بطيك لأوراقها.. إن تفاعل مجريات الأحداث في رواية عذراء سراييفو يجعلك لا تلقيها من يديك إلا اضطرارا، متشوفاً متى سترجع إليها.. ولا تحسبَنّ بهذا أنها تنتمي لذاك النوع المبتذَل من الروايات، التي يمتطيها أي قارئ، والتي لا تنفك أن تعكس رداءة لا من ناحية الموضوع، ولا من ناحية الأسلوب، الأمر مختلف تماما، فالقارئ الحصيف المتمرس من سيساير هذه العذراء ويسايسها، حتى يبلغ منها غايته، وإلا سقط صريعا قبل الوصول.

​أول مصرع تسقط على أعتابه روحك هو مصرع اللغة، رصينةٌ قوية منمقة.. عربيةٌ ليس كلُ من هب ودب توصله لنهايتها، مفردات سلسة أحيانا، متمنعةً أخرى.. تراكيب تنبش في عمق الذهن مُحْيِيَةً العقل بالتأويل، وآخذةً بتلابيبك أنْ ركِّزْ وانتبِهْ إن أردتَ وصولا، أما إذا اعتدتَ السهلَ الذي إن قرأته ما أضافك شيئا، وخرجتَ منه كما دخلتَ، فلا مكان لك هنا.

​فإن جاوزتَ مصرع اللغة بنجاح، سقطتَ في شرَك الشخوص، كثرتها تجعلك تائها، أما إذا قرأت منها شيئا ووضعتها ليومين ثم عدتَ إليها، فلا سبيل لك سوى معاودة القراءة من الأول، وإلا اختلط عليك حابل “نوار”، بنابل “ماريا”، ثم إن تلك العلائق التي تجمع بين هذه الشخصيات، تضفي على الرواية شيئا من التعقيد، فالأصول مرتبطة بالفروع، وكلٌ يعرف كلاًّ في تناغم تارة، وصراع تارة أخرى.. قوى تُشكل عاملا مساعدا، وقوى تشكل عائقا، في قالب غريماسي ماتع.

​فماريا المغربية الأصل، بطلة الرواية، ترجع أصولها لإحدى قبائل الأطلس، حملت على عاتقها وصية والدها عزت ولد الحاج عبد المؤمن المغربي، وذاك حين ناولتها أمها نوار لوصية أبيها: “لقد أوصى المرحوم أبوكِ يا ابنتي بأن نزور بلاد المغرب متى يعُم الاطمئنان سراييفو”، وصية جعلت من ماريا أكثر تعلقا بموطنها الأصلي، بجذورها العربية، ودينها الإسلامي، فحملتْ قضية المسلمين على عاتقها، فحَرّكها محمد غالمي كعامل مساعد ضمن دواليب الحرب العرقية هناك.. متبعة منحى أبيها عزت الذي منح من ميراثه جزءا غير يسير لأجل “سراييفو”، كما منح هبة نقدية هامة لأجل استكمال بناء مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء.

​الحس الخيالي للأديب محمد غالمي سخر فيه شخصية “ماريا” تسخيرا عجيبا، فقد تجندت للإيقاع بأفتك مافيات مضطهِدَةٍ للمسلمين بكرواتيا والصرب وسراييفو، هي “الذباب الأزرق”، و”النمل الأحمر”، في شخص القائد العسكري (كارتز).

​كارتز القاتل الذي لا يعرف سوى لغة التقتيل والتعذيب والتنكيل، وإن بدت له أي جميلة حسناء عذراء، اشتهى منها الجسد أولا، فإن تمنَّعَت اغتصبها عنوة فقتلها.. حتى تظهر بذلك “ماريا” التي ستسقطه في شراكها بجمالها، فتتحايل عليه بدهائها، فقد أوهمته أنها طاوعته، حتى اطمأن لها فسُلّتْ من بين يديه كما تُسل الشعرة من العجين بلا بأس ولا ضرر.. فاستحقت بذلك لقب الرواية “عذراء سراييفو”.

الشخوص كلهم في تلاحم وتظافر لغاية واحدة، محاربة الاضطهاد والتنكيل، القتل والسفك والتطهير العرقي الذي مورس على الأهالي هناك، فستجد في الرواية شخصية “صلاح”، المغربي الأصل كذلك، والمنتمي لقافلة أطباء بلا حدود، ديدنه معالجة ضحايا الحروب العرقية الدائرة رحاها هناك..

“عذراء سراييفو” رواية يختلط فيها الإنساني بغير الإنساني، يمتزج فيها الخير بالشر، التنكيل بالرحمة.. هي سرحان في الثقافي والسياسي والاجتماعي، ونخر في عوالم أوروبية وتقليب لأوراق تاريخية رصينة..

​قتل مائتي ألف بوسني مسلم ليس أمرا هينا، بل بشاعة سجلها التاريخ، وترجمتها رواية بقلم مغربي مغمور..