قراءة في كتاب: المعرفة والسلطة: صور من حياة مثقف من البادية في القرن العشرين لديل إيكلمان

1٬458

تعتبر السيرة من أهم الأشكال الأدبية التي اعتمدها الباحثون الأنتروبولوجيون في دراساتهم وأبحاثهم؛ إذ هناك مجموعة من الدراسات التي اعتمدتها بشكل كبير في تناول موضوع المثقف والعالم التقليدي في المجتمعات الإسلامية. ولعل الكتاب موضوع قراءتنا خير دليل على ذلك. لقد ارتأيت أن أقسم مقالي هذا إلى محورين أساسيين، أخصص الأول للتعريف بالكاتب والمترجم، والثاني لتقديم قراءة متواضعة لكتاب “المعرفة والسلطة، صور من حياة مثقف من البادية في القرن العشرين”.

المحور الأول: المؤلف والمترجم

مؤلف الكتاب: ديل. إف. إيكلمان
ولد ديل. إف. إيكلمان بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1943، وتابع دراسته بها، وفيها حصل على مجموعة من الشواهد العلمية الأكاديمية، أهمها شهادة Ph.D. في الأنتروبولوجيا من جامعة شيكاغو حول موضوع الإسلام في المغرب. يعتبر ديل. إف. إيكلمان من أهم الباحثين والأنتروبولوجيين الأمريكيين الذين اهتموا بدراسة المجتمعات الإسلامية، وقد زار من أجل ذلك عددا من دول العالم الإسلامي كالمغرب والأردن وعمان وتركيا وأندونيسيا والإمارات، وألف مجموعة من الكتب والمقالات ذات الطابع الأنتروبولوجي من أهمها:

كتاب Moroccan Islam، صدر سنة 1976، وكتاب The Middle east an Anthropological Approch، صدر سنة 1981. وكتاب Knowledge and power in morocco، صدر سنة 1985. وكتاب New media and the muslim world، صدر سنة 1999.

وتتميز أعماله بغزارتها وقيمتها العلمية، وهي تشهد على تمكن صاحبها من علم الأنتروبولوجيا، ومن تقنيات العمل الميداني، وامتلاكه قدرات كبيرة في التواصل والحوار وطرح السؤال، وقد لقيت مؤلفاته إقبالا واسعا في مختلف الأوساط العربية والإسلامية.

المترجم: محمد أعفيف
هو أستاذ التاريخ في جامعة محمد الخامس بالرباط. حصل على دكتوراه في التاريخ من نفس الجامعة، وقبلها على ماستر الفلسفة في الأنثريولوجيا من جامعة نيويورك. تخصص الدكتور محمد أعفيف في دراسات الشرق الأقصى والمغرب، وصدر له كتاب أصول التحديث في اليابان 1568- 1868، كما قام بترجمة عدد من المؤلفات من الإنجليزية إلى العربية، نال عنها جائزة المغرب للترجمة سنة 2014، ولعل أهمها: المعرفة والسلطة، صور من حياة مثقف من البادية في القرن العشرين، لمؤلفه ديل. إف. إيكلمان. وكتاب الإسلام في المجتمعات العلمانية وما بعد العلمانية، لمؤلفه داستن بورد.

المحور الثاني، كتاب المعرفة والسلطة

صدر كتاب “المعرفة والسلطة، صور من حياة مثقف من البادية في القرن العشرين” لأول مرة سنة 1985 باللغة الإنجليزية، وقد قامت فيما بعد كل من مؤسسة عبور، ومركز طارق بن زياد للدراسات والأبحاث بنشر الترجمة العربية التي قام بها الدكتور المغربي محمد أعفيف. انطلق إيكلمان في كتابه هذا من تتبع سيرة قاض من البادية هو عبد الرحمان المنصوري ليعالج إشكالية أساسية تتمحور حولها أفكار الكتاب ومضامينه. فما هي هذه الإشكالية؟

إشكالية الكتاب
دأب معظم الباحثين الغربيين على التقليل من أهمية التعليم الديني، ومن جدوى أنماط التعليم الإسلامي عموما، والمغربي على وجه الخصوص. بل إن إيكلمان نفسه كانت له أفكار مسبقة قبل بداية بحثه في المغرب، افترض من خلالها أن ما يميز التعليم الديني الأصيل بالمغرب هو الجمود والسكون وعدم الإنتاجية، غير أن عمله مع القاضي عبد الرحمان المنصوري، وتتبعه -من خلال سيرته- للتغييرات التي عرفها التعليم الأصيل بالمغرب، ومفهوم المعرفة المرتبطة به، وأسلوب تلقينه، والعلاقات التي تربط حملة القرآن وطلاب العلم الشرعي بالمجتمع، جعلته يخلص إلى أن التعليم الأصيل في المغرب -وعلى عكس افتراضاته السابقة- يشكل عنصرا حيويا داخل المجتمع المغربي، وأن العلم والمعرفة جزء لا يتجزأ من حياة المغاربة.

وهكذا، فالإشكالية المحورية للكتاب تنطلق من النظرة التقليدية الضيقة للدراسات المهتمة بالعالم الإسلامي التي ترى أن المثقفين التقليديين يشكلون فئة اجتماعية لا تكاد تحظى بأي مكانة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية للمجتمع، إلى التأكيد على محورية التعليم الأصيل وحيويته وانفتاحه على المجتمع المحيط به من جهة، وعلى المكانة التي احتلها الفقهاء والعلماء، وما كانوا يتلقونه من دعم شعبي ورسمي من جهة ثانية.

موضوع الكتاب
من خلال تتبعه لسيرة القاضي عبد الرحمان المنصوري، لاحظ إيكلمان بأن الخطوة الأولى للتعلم بالمغرب كانت هي الالتحاق بالكتاب (المسيد) لحفظ القرآن الكريم، والتمكن من قراءته قراءة صحيحة… وقد اعتمد التعليم على الحفظ بشكل أساسي خلال هذه المرحلة، وهو ما جعل بعض الباحثين يصفون التعليم التقليدي المغربي بأنه تعليم ميكانيكي رتيب يقوم فقط على ترويض الذاكرة، ويحرم الطالب من طرح السؤال ومن توظيف قدراته في البحث والتنقيب. غير أن إيكلمان توصل من خلال دراسته إلى أن أسلوب الحفظ ليس إلا شكلا من أشكال متعددة أخرى يتم اعتمادها أيضا خلال المراحل الأولية للتعليم الأصيل في مناطق متعددة من العالم الإسلامي. بعد أن يُتم الطالب حفظ القرآن الكريم، ينتقل إلى مرحلة أخذ العلوم الدينية على يد الشيوخ، وقد يتم أيضا تلقين الطلبة خلال هذه المرحلة علوما أخرى كالحساب والرياضيات، ويبقى أسلوب الحفظ حاضرا خلال هذه المرحلة أيضا، لكنه يتعلق هذه المرة بحفظ الأرجوزات والألفيات.

وقد لاحظ ديل. إف. إيكلمان أن التعليم في مرحلته الأولى غالبا ما يكون داخل الأسرة، كما كان حال القاضي عبد الرحمان المنصوري الذي قضى الفترة الممتدة بين 1925 و 1927 يتعلم مع إخوانه بمنزل أسرته في قرية بزو. ذلك أن الأسرة كانت تقوم بدور مهم في دعم التعليم الأصيل بالمغرب، وفي توفير الجو الملائم لأبنائها وتشجيعهم ماديا ومعنويا لمواصلة تعليمهم. كما حظي التعليم الأصيل بالمغرب بدعم شعبي واسع، وتمتع الفقهاء والعلماء باحترام كبير ومكانة معتبرة بين المغاربة.

ومما لاحظه إيكلمان أيضا أن أغلب الطلبة يضطرون للتوقف عن الدراسة في المراحل الأولى للتعليم ليلتحقوا بسوق الشغل بسبب الحاجة وقلة ذات اليد. لذلك، فإن قلة من المحظوظين هم من كانت تتوفر لهم إمكانية الالتحاق بالتعليم الديني العالي في المساجد والزوايا والمدارس والجامعات (جامع ابن يوسف، القرويين… ). وإذا كان التعليم القرآني الابتدائي قد اقتصر على التلاميذ فقط، فإن التعليم العالي كان منفتحا على العموم، مما يدل على انفتاح التعليم آنذاك على المحيط الخارجي.

خلال العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين، ظهرت بالمغرب حركة إصلاحية استهدفت تصحيح التدين المغربي، ومحاربة كل أشكال الشوائب والبدع التي علقت به، ولقيت هذه الحركة دعما واسعا من أهم رواد الإصلاح السلفي آنذاك، أمثال أبي شعيب الدكالي والمختار السوسي. وكان عبد الرحمان المنصوري متأثرا بأفكار هذه الحركة ومؤمنا ببرامجها الإصلاحية، وإن كان الحظ لم يحالفه لإتمام مساره التعليمي؛ لأن أخاه الأكبر أحمد المنصوري انتدبه ليشغل منصب عدل كان قد وافاه الأجل، ثم شغل فيما بعد منصب قاض، ليجمع بذلك بين الفقيه العارف بأمور الدين، والقاضي الملم بأحوال الناس والبلاد. لذلك صح أن يعتبره إيكلمان نموذجا للنخبة الدينية المثقفة لمغرب بداية القرن العشرين.

لكن، هل انخرطت هذه النخبة في العمل السياسي بالمغرب؟ للإجابة عن هذا السؤال، توقف ديل. إف. إيكلمان عند محطة أساسية في تاريخ المغرب، هي صدور ما يعرف ب”الظهير البربري” الذي كان يهدف إلى الفصل بين العرب والأمازيغ في القوانين، وإخضاع القبائل الأمازيغية للأعراف المحلية بدل الشريعة الإسلامية. ومع أن احتجاجات كبيرة عمت المغرب، انطلقت في أغلبها من المساجد، ورددت خلالها تلاوة اللطيف للتنديد بالظهير الاستعماري العنصري، فقد لاحظ إيكلمان بذكاء أن النخبة الدينية التي كان عبد الرحمان المنصوري يمثل نموذجا لها قد عكفت عن المشاركة في تلك الاحتجاجات، بل إنها بقيت في الغالب بعيدة عن الانخراط في مختلف الأنشطة والقضايا التي شغلت الساحة السياسية المغربية بعد ذلك.

مع بداية الثلاثينات من القرن العشرين سيعرف المغرب بداية تراجع التعليم الديني الأصيل، بسبب مجموعة من العوامل أهمها ظهور مدارس عصرية أنشأتها السلطات الاستعمارية، وأخرى حرة أنشأتها الحركة الوطنية واعتمدت فيها على برامج تربوية وتعليمية مواكبة.

OLYMPUS DIGITAL CAMERA

إن الالمام في مقالنا بمختلف المواضيع الخصبة التي تناولها إيكلمان في كتابه يعتبر مهمة صعبة، إلا أنه بإمكاني الإشارة إلى أن الكتاب تميز بـ:

  1. تناوله لموضوع المرأة (الأم، الأخت، الزوجة، زوجة الأب، البنت…) نظرا لما يحتله هذا الموضوع من أهمية قصوى في فهم السياق العام، والظروف الأساسية التي كانت تحيط بالتعليم في مراحله الأولى، خاصة داخل الأسرة.
  2. اهتمامه بالحياة الاقتصادية والتجارية والسياسية للعلماء والفقهاء، كون كثير منهم لم يقتصر مجال اهتمامه على المعرفة الدينية، بل كان متفاعلا في كثير من الأحيان مع محيطه ومع قضايا مجتمعه. هذه هي أهم الافكار التي طرحها إيكلمان في كتابه، وقد عمل على صياغتها انطلاقا من مادة مصدرية متنوعة. فما هي طبيعتها؟
  3. المادة المصدرية المعتمدة في الكتاب: اعتمد إيكلمان في كتابه بشكل كبير على اللقاءات الكثيرة التي جمعته بعبد الرحمان المنصوري، وكذلك على المذكرات الخاصة التي كتبها المنصوري في مناسبات مختلفة. كما استفاد من الخرجات الميدانية التي شاركته فيها زوجته وعبد الرحمان المنصوري في كثير من الأحيان. اعتمد أيضا على روايات شفوية أخرى نقلها من بعض أصدقاء المنصوري وزملائه، أو من بعض تلاميذ وخريجي التعليم الديني الأصيل.

استفاد إيكلمان من رصيد وثائقي مهم خاصة منه المتعلق بالزاوية الشرقاوية، ومن كثير من المصادر والدراسات والأبحاث التي تنتمي لحقول معرفية مختلفة كالتاريخ والأنتروبولوجيا والعلوم السياسية.

ولعل هذا التنوع في المادة المصدرية، فضلا عن صرامة البحث العلمي التي يعرف بها إيكلمان، هي التي جعلت الكتاب يحظى بأهمية كبيرة في أوساط الباحثين والمهتمين بتاريخ المغرب، خاصة تاريخه المعاصر.