ماذا لو كنت موهوبا؟

لكل منا ما يميزه عن غيره، فالموهبة تمثل تميزا ملحوظا عند عدد من الأفراد في جانب معين أو جوانب مختلفة. وعادة ما تكون مصحوبة بقدر مناسب من الابتكارية التي يتمكن ذلك الشخص بموجبها من تقديم أفكار جديدة وحلول جديدة لمشاكل قائمة، بالإضافة لهذا، فهي تتطلب نسبة ذكاء مرتفعة استنادا لمقاييس الذكاء العالمية.
إن التعريف اللغوي لكلمة موهبة، يعطينا فكرة واضحة أنها هبة من الله تعالى للإنسان دون مقابل. أما التعريف الإنساني فوضع الموهوبين مكانة رفيعة، حيث تتمثل فيهم صفات قادات الأمة وخدامها. وذلك بفضل نسبة النشاط العقلي العالي الذي تتميز به هذه الفئة من المجتمع. من بين التفسيرات الكثيرة التي خص بها الموهوبون نجد مقولة لميرلاند تعود لسنة 1972، حيث يقول إن هؤلاء الأطفال الذين يملكون قدرات وإمكانيات غير عادية تبدو في أداءاتهم العالية المتميزة، ويتم معرفتهم بدقة من خلال خبراء متخصصين، مؤهلين، ومتمرسين وممن لا تخدمهم مناهج المدارس العادية وبحاجة إلى برامج متخصصة ليتمكنوا من خدمة أنفسهم ومجتمعهم. وتشمل مجالات الأداء العالي المتميز، ويمكن القول إنها مجالات الموهبة أيضا، واحدا أو أكثر من المجالات التالية:
1- القدرات العقلية العامة: المعلومات العامة والقدرة اللغوية (التجريد والمعنى للمفاهيم) والقدرة على الاستدلال.

2- القدرة الأكاديمية المتخصصة: قدرات عالية في اختبارات التحصيل الدراسي في الرياضيات أو اللغة.
3- القدرة القيادية: القدرة على حل المشكلات، وارتفاع مستوى الثقة بالنفس وتحمل المسؤوليات والتعاون، والميل للسيطرة، والقدرة على التفاوض، والقدرة على توجيه الآخرين وسياستهم.
4- القدرة الإبداعية والابتكارية: وهي القدرة على إنتاج العديد من الأفكار الجيدة أو تجميع العناصر التي تبدو متنافرة.
5- المهارات الفنية أو الأدائية: وتشمل هذه المواهب الخاصة في مختلف الفنون، كالرسم والأدب والخطابة والشعر، إلخ…
بالإضافة إلى التصنيف المعروف لمجالات الموهبة، وضع المتخصصون تقسيما يشمل مظاهر ومميزات الموهبة لدى الموهوبين، فصنفوها لثلاثة أقسام: الأول لأصحاب المواهب الفائضة، وتضم الفلاسفة والفنانين العظماء، ولهم قدرة استثنائية في التأثير في محيطهم، فتفيض موهبتهم حتى تلامس قلوب الآخرين وتسمو بأفكارهم ومخيلاتهم. في المرتبة الثانية نجد المواهب الشاذة، وهي الاستثنائية، المتجاوزة لحدود العقل المعروفة. كالذين يتمتعون بالقدرة على حل العمليات الحسابية المتقدمة، عقليا، وفي وقت جد وجيز. ثم المواهب النادرة، وعُرفت هذه الفئة بالرواد الذين عاشوا حياة جد قاسية تفتقر لجميع مواصفات العيش الكريم، لكنهم غدوا مبتكرين وعلماء في مجالات متباينة. ويمكننا أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر، جوناس إدوارد سولك وهو طبيب أميركي، عالم وباحث. قام بتطوير التجربة الناجحة الأولى للقاح شلل الأطفال، وسمي باسمه (سولك). وخلال حياته، كرس سولك الكثير من الجهود نحو تطوير لقاح مضاد للإيدز.

في الحقيقة ليس كل الموهوبين لهم القدرة في أن يشقوا طريقهم لوحدهم، فهنالك فكرة مغلوطة، تجاه هذه الفئة على أن تميزهم سيخول لهم التغلب على كل العقبات في حياتهم، وصقل مواهبهم وإظهارها في الصورة الأكاديمية الصحيحة. بل على الرغم من امتلاكهم لبعض القدرات، إلا أنّ معظمهم لا يستطيعون إظهار هذه المواهب وتطويرها دون مساعدة الآخرين. فهم بحاجة إلى خدمات أكاديمية وكذلك انفعالية من خلال فهمهم وتقبلهم ودعمهم، إذ أكدت دراسة فريمان والتي أنجزت في سنة 1991 أنّ التطور الانفعالي للأطفال الموهوبين ضمن العلاقة بين البيت والمدرسة تشوبه بعض المشكلات الانفعالية التي لا تعود إلى قدرات الموهوبين بحد ذاتها، ولكن إلى معتقدات الآخرين عنهم وممارستهم غير الداعمة، كصراع الأهل وتوقعاتهم المختلفة حول أطفالهم الموهوبين. وقد أدت نتائج مثل هذه الدراسة واهتمام عدد من الباحثين بدراسة الحاجات الاجتماعية والانفعالية للموهوبين، والموهوبين من ذوي التحصيل المتدني، من أبناء الريف والمناطق الأقل حظاً، ومن ذوي الإعاقة…إلى زيادة الاهتمام بتطوير برامج إرشادية لهم، تساعد على الوقاية من الوقوع في المشكلات المختلفة، وتعمل على تقديم الخدمات الإرشادية والعلاجية المناسبة في حالة وقوعها.

مما لا شك فيه، أن الكل يؤمن بالمسلمة البديهية بأن الثروة البشرية أثمن من غيرها من الثروات الطبيعية، وأعم فائدة، إذا ما أُحسِن استغلالها. لذا نلاحظ تهافت الدول لاحتضان الطاقات وأكبر عدد من المواهب، تكوينها وكذلك فسح فرص قيمة أمامها للإبداع. فكلما كانت البيئة المجتمعية بمؤسساتها المختلفة أي المنزل، المدرسة وغيرها…تقوم على احتضان هذه الطاقات، أصبحت مرتعا خصبا للعمل والإنتاج في نظرهم.

تتجلى أهمية هذه البيئة المجتمعية الجيدة أولا في اكتشاف الموهبة لدى الأطفال، منذ بدايات تجلياتها، والتي قد تظهر قبل سن المدرسة، حتى تتجنب الأفعال والسلوكيات التي قد تخلق عقدا لدى الطفل فتحبس فيه روح الطموح وحرية التعبير. ويتم هذا عن طريق ملاحظة وجرد مجموعة من السلوكيات قد حددها الباحثون في؛ الاكتساب السريع للغة، حيث ترى الطفل ينطق بالكثير من المفردات، ويركب جملا معقدة طويلة. فالمهارات الحركية، والتي تتمثل في الركض والتسلق والنشاط، والتحكم في الأدوات الصغيرة بإحكام كالأقلام مثلا. تليها الخصائص العقلية، ومن دلائلها القدرة على الربط بين أفكار متباعدة، يتذكر الأحداث والأشخاص بدقة، ومن الممكن أن يكون محبا للمطالعة ويعير اهتماما باديا حتى للإعلانات المعلقة بالشوارع…أي إذا شبهنا عقل الإنسان بالحاسوب الذي يشتمل على ثلاث وحدات رئيسية هي: وحدة المدخلات الحسية ووحدة الاختزان ووحدة المعلومات، فإن الأطفال الموهوبين والمتفوقين يتميزون بأنهم قادرون على استقبال معلومات أكثر حول ما يدور في محيطهم، واختزان كم أكبر منها، واستخدام أساليب عديدة ومتنوعة في معالجة المعلومات المتوافرة لديهم.

مقالات مرتبطة

لا ننسى أن لهذه الفئة خصائص اجتماعية فريدة، حيث يشفقون على من به حاجة ويتعاطفون معه بسهولة، وفي الأغلب واثقون من أنفسهم وتعجبهم الاستقلالية، ويكرهون إجبارهم على ترك حياتهم ليتصرف فيها أحد آخر غيرهم. فضلا عن تقدير أساتذتهم وإقامتهم علاقة جيدة مع من حولهم. ناهيك عن السلوكيات الإبداعية، ونقصد التمتع بخيال واسع، ويظهر مستوى عال في التعبير اللفظي. يأتي الصنف الأخير من سلوكيات الموهوبين، وهو الذي يحدد مجال ونوع هذه الموهبة، فسماها الباحثون السلوكيات الخاصة، كالغناء، وجمع الطوابع، وعملات أو بطاقات أو بالطبع العزف على الآلات الموسيقية.

إذن، ماذا لو كنت ذا موهبة، وأردت تطويرها؟ هذا السؤال أوجب ابتكار وإنشاء ووضع فرع جديد في علم النفس الإرشادي، والذي يهدف إلى تيسير تفاعل الإنسان مع بيئته ضمن ثلاثة أدوار، هي: الإرشاد الوقائي، والتنموي والعلاجي. ولعل أبسط ما يمكننا تعريفه به، هو مجموع الخدمات التي يقدمها اختصاصيو علم النفس الإرشادي، لتيسير السلوك الفعال للإنسان خلال عمليات نموه على امتداد حياته كلها، مع التأكيد على الجوانب الإيجابية للنمو والتوافق في إطار مفهوم النمو. والذي سمي بحركة تربية الموهوبين، من خلالها يهتم بالحركات الانفعالية وكذا الاجتماعية لهذه الفئة، ليكونوا ذوي بصمة إيجابية في مجتمعهم، امتثالا لعدد من العظماء والعباقرة الذين تركوا بصمات واضحة في سجل الحضارة الإنسانية في مجال العلوم والآداب والفنون والسياسة والحرب والفلسفة والاجتماع. بعدما قام تيرمان Terman سنة 1921، باختبار الذكاء للأطفال الموهوبين وحدده في 140 درجة، أنشأت المربية ليتا هولنجووث Hollingworth سنة 1934 عددا من الفصول التجريبية لتطبيق بعض البرامج العلمية والتربوية لتطوير عينة من الأطفال وصلت إلى 12 طفلا، يبلغ مستوى ذكائهم 140 درجة، فوصلت إلى نتائج مهمة أعطت انطلاقا لتربية الموهوبين.حيث سلطت الضوء على ضرورة تكيف الوسط مع حاجيات الطفل الموهوب الذي قد يبدو له المناخ الدراسي يغلب عليه الفتور، وعدم المبالاة، علما أنهم ذوو شخصية تتسم بفجوة ما بين النمو العقلي والعاطفي. فالأول يتقدم بسرعة أكبر، فقد أشارت أن من الوقت بالمدرسة بالنسبة للأطفال الموهوبين، هو ضائع، دون فائدة تذكر. لكن حركة تربية الموهوبين كانت بطيئة نسبيا، وذلك يعود لتركيزهم المنصرف نحو الجانب الأكاديمي وإهمال السلوكيات الاجتماعية والانفعالية، إلى حد ما.

وبالتالي، بدأت الإحصائيات تظهر مجموعة من المواهب تغادر المدرسة، أو تعاني من الاكتئاب، فعند اقترابهم من انتهاء مرحلة الثانوية يتدخل الأبوان، والمعارف والوسط بأكمله ليحاول جرهم إلى مسار في الأغلب يتقاطع مع أحلامهم ومبتغياتهم. المشكلة الأكبر التي تظهر عند الطالب الموهوب في هذه المرحلة، هي الإحساس بالضياع، ففي الأغلب لا يكون ذا تخطيط واضح، أي أنه لا يعرف ما يريد القيام به حقا في المستقبل، أو بقية حياته. فتفوقه الدراسي لا يعادل نجاحه في القيام بأعمال هادفة ومخططة مسبقا. لذا، أكد الباحثون أن شريحة الموهوبين هم في حاجة ماسة لبرامج تربوية وخدمات متمايزة عن البرامج والخدمات التقليدية المتوافرة في المدارس العادية، فصاغوا كل هذه المميزات في نقاط واضحة. أشاروا أولا لمناهج التعليم، والتي لها توجه عام، نظرا لمحدودية الوقت المخصص لكل مادة على حدة، وطول المقررات، وكذا كثرة الطلبة.

لذا، فالاهتمام بالأغلبية كان الحل الوحيد. فربما يلاحظ الأساتذة اختلاف بعض من طلابهم، فيولونهم الانتباه.

ولكن، يواجه الأساتذة مشاكل كبيرة في التعامل مع الحالات المتطرفة، أي الحالات الشاذة في الذكاء، وبالتالي وجد الباحثون هنا بُدا من وضع برامج خاصة للموهوبين المتميزين، الذين يفقدون تركيزهم خلال الحصص. فما يتلقونه لا يضاهي نشاطهم العقلي، فيصفونه بالممل. أضاف الباحثون، أنه من المعروف أن جميع الطلاب يستحقون المعاملة بديموقراطية، لكن الأغلب يخلط بين مفهومي المساواة وتكافؤ الفرص، في الفهم أولا والتطبيق ثانيا.
إن ما يقوم عليه النظام التعليمي في الحقيقة هو إعطاء فرص لكل الطلاب على وجه التكافؤ، أي تهييء الفرص السانحة لكل فرد ليتقدم بأقصى ما لديه ويبرز ذاته، وذلك حسب مواصفاته السلوكية وتركيبته النفسية. أي مالمستحيل أن نعامل شخصا يعاني من إعاقة حسية أو حركية، وآخر سليما نفس المعاملة وننتظر منهما تحقيق نفس النتائج.
علاوة على هذا، فالبرامج الوقائية والإرشادية تقوم بدور هام في حماية الموهوبين حتى لا يسيئوا استخدام مواهبهم في ما قد يضر أنفسهم ومحيطهم. فهم ثروة للبلد، لا يجدر إهدارها. ناقشنا كل ما يتعلق بالطفل الموهوب خلال تفاعله بمحيطه التعليمي والمجتمعي…وما على كل من هذه الأطراف توفيره لتحميه وتعيره الاهتمام الذي يستحقه. لكن هذا وجه واحد من عملة اكتمال شخصية الموهوب، والوجه الآخر هو ما يمكن للموهوب أن يقدم لنفسه ويفعله لصقل موهبته.
نعم، لا يمكنك الاتكال على المحيط ليساعدك، بينما لا تتمسك بأحلامك وطموحاتك. فمن العوامل التحفيزية للشخص الموهوب هو المحيط، فيجب أن تكون له القدرة على التمييز بين المحيط الذي سيؤهله على المضي قدما والتطوير من نفسه، وقد يمده بأفكار جديدة تفتح أمامه بابا آخر للإبداع، وآخر يسلبه كل طاقته الإيجابية. وربما العزلة في بعض الأحيان تحيي الحوار مع الذات لإعادة تسطير الخطوط الأساسية لحياتنا، فنزيل بذلك عوائق داخلية ونتصالح مع ذواتنا. أما النوع الاخر من العوائق التي قد يسهل تجاوزها، هي الكف عن تضييع الوقت الثمين في أشياء لا تعود بأية منفعة…فبدل الجلوس طيلة اليوم أمام الحاسوب أو التلفاز، ومشاهدة مختلف الأفلام والمسلسلات، أو التجول اليومي مع أصدقاء لا ينشغلون إلا بالحديث عن الآخرين ومنجزاتهم، يمكن استخلاص هذه الطاقة وإفراغها في استكمال المشوار للوصول للنجاح. ولا ننسى الإصرار طبعا، وهو ذلك الحبل الذي تتمسك به بقوة حتى لا تجرك تيارات الحياة فتضيع عن هدفك.

مهما قالوا عنك أو لك لا تأبه، وركز على ذاتك، اجعل إبداعاتك ترد الجواب، ولا تفكر فيما مضى من الزلات والأشخاص الذين خذلوك ولم يمدوا لك يد العون. فأنت لا ترى عدد الأشخاص الذين يحبونك ويدعمونك الآن أكثر مما تلتفت للماضي. ولا تقلب صفحة ماض يؤلمك بل اقتلعها من كتاب حياتك.