التدافع الاجتماعي: بين إنتاج البنيات وتفككها 

429
كل بنية إلا وتحمل في ذاتها بذور تفككها. وما دام أن هذه البنية إنسانية في طبيعتها فهي بالضرورة مرشحة لأشكال من التطور والصيرورة. بهذا المعنى، كل بنية جديدة تكون نتاج صيرورة بنية قديمة، إنه فعل توليدي لبروز وتشكل بنى أخرى. وانطلاقا من هذه الفكرة يتضح أن الحركات الاحتجاجية عبر التاريخ اختفت أو تفككت بسبب طبيعتها الجوهرية ولكونها إنسانية في كليتها، وعلى هذا الأساس يتبين أن البنيات التي تخضع لتوجه واحد محكوم عليها بالموت، مع الحذر اللازم من الارتياح لفكرة التعدد.
ذلك أن وجود بنيات معتمدة على التعددية لا يلغي إمكانية التفكك، وينضاف إلى هذا الحالة التي يكون فيها المجموع خاضعا لقواعد تتسم بالتعالي والقدسية إذ لا يسلم بدوره من حدوث الاختلاف. وهذا ما يفسر وجود عنصر المقاومة لدى المجتمعات التي تتسم بكونها متدينة، إذ تلقى الأفكار الجديدة اعتراضا شديدا من طرف المجتمع وسواء كان تعدديا أم أحاديا ففي الحالتين معرض لحتمية الصراع، وفي الوقت الذي يطلب فيه التعدد في النموذج الأحادي نجد كذلك النموذج التعددي يعيش تجاذبات بين الأطراف وصراع قوي من أجل إثبات الذات وتعزيز حضور هذا التوجه أو ذاك، مثال الأحزاب السياسية في الأنظمة الديموقراطية التي تقوم بتعبئة جميع الموارد واستعمال كافة الوسائل، الأخلاقية منها وغير الأخلاقية، القانونية وغير القانونية، بهدف كسب تأييد الجماهير وانتزاع الاعتراف منها.
وعليه، فكل دعوة لتأسيس مجتمع خالٍ من الصراع أو على الأقل الادعاء بإمكانية تكوين نموذج وحدوي منسجم لا يأتيه الصراع من بين يديه ولا من خلفه، فإنما هو ادعاء إيديولوجي وبرغماتي يهزأ بسنن الطبيعة البشرية القائمة أساسا على الاختلاف والتنوع، وأي محاولة لتنفيذ حصار نفسي أو مادي لبسط السيطرة على الإنسان سواء عبر فرض توجه فكري أو عقدي معين أو من خلال توسيع مجال ضبط القانون، فإنها ستكون المحاولة الأخيرة من نوعها بما سينتج عنها من تداعيات من شأنها أن تحول حياة البشرية إلى جحيم.
إن حركة التاريخ تعتمد على وجود تناقضات ثنائية داخل البنى الاجتماعية، وهو ما نمثل له بالصراع الطبقي عندما نفسره إيديولوجيا بالماركسية وبالتدافع الاجتماعي من وجهة نظر دينية بحتة، والإسلام اعترف بمسألة تطور المجتمعات انطلاقا من القيمة الأساسية التي يكتسيها عنصر الاختلاف والتنوع الذي تتسم به الطبيعة البشرية، ويؤدي اختفاء هذا العنصر إلى نهاية الوجود الذي طالما كان استمراره يأتي بالتبعية لتفاعل التناقضات الكامنة في ذاته.
وهذا ما يفسر الانشقاقات التي حدثت وما تزال، في تاريخ الحركات الاجتماعية، إذ كل حركة تنبت في التاريخ إلا وتحمل في داخلها عناصر انقسامها وتفككها، وتحضرني هنا الحركة الوطنية التي ظهرت في المغرب الأقصى باعتبارها كانت تمثل الفكر الواحد في معركتها من أجل تحقيق الاستقلال وتحرير البلاد من الوجود الفرنسي، فما هي إلا سنوات قليلة حتى بدأت تتناسل من رحمها تيارات جديدة بما هي امتداد طبيعي للحركة الوطنية، وذلك لأسباب مرتبطة أساسا بالطبيعة البشرية تدفع الإنسان دفعا لتبني موقف يرفض التبعية وعدم قبول العيش في بيئة يطبعها الجمود الناتج عن فكرة التطابق المذهبي والإيديولوجي، ولذلك فإذا وجد الإنسان في مكان خال من المشاكل والخلافات فإنه سيبادر من تلقاء ذاته وبصورة آلية لصنع شروط موجبة للصراع والتوتر، وتحقيق بالتالي معنى ما لوجوده الذي يتميز بالنقص والفراغ.
إن عملية التفكك التي تحصل في البنيات تشكل استمرارا نوعيا لها ولكن بشكل مختلف تماماً، حيث إن التفكك لا يعني الإلغاء بقدر ما يشكل حدثا تطوريا. من هنا يمكن القول بأن جوهر البنية لا يتغير رغم تفككها، فالأهداف تظل هي نفسها رغم تغير الشكل الذي تحددت بواسطته. بيد أن استمرار مجتمع ما مشروط بقيام أسباب تشكل مصدرا لتهديده، أي استهداف قيمه ومرجعياته.. ولا بد إذن والحالة هذه، من التصدي والممانعة لمواجهة الخطر بما هو فعل محدد لفكرة الصراع.
1xbet casino siteleri bahis siteleri