إنسانية الإنسان 

777
إن الأحداث التي يشهدها العالم والوقائع التي تدور حوله، والأفكار التي تسيّره في عصرنا، تستدعي الإنسان لسؤال الكينونة من جديد، فالعقل يستقل لوحده في رصد هذه الأحداث وتفسيرها، ويغيب حس الروح والقلب في تصديقها. الإنسان كائن إنساني، هذه الجملة تحمل في طياتها إنسانا خالصا، تحمل في جوهرها تناقض الإنسان، بين حيوانيته وسماويته، بين أخلاقيته وانحرافه، بين عدله وظلمه، بين تواضعه وتكبره، بين ماديته وروحانيته.
ازدواجية ظاهرة للعيان، هذه الازدواجية هي المحددة لكينونة الإنسان، هي المعيار الأول الذي يجب على المرء أن يأخذه لتفسير الواقع والعالم، بدون سؤال الكينونة لا يمكن إيجاد جواب يوافق العالم والطبيعة البشرية، لا يمكن إيجاد جواب كوني وخالص لأي حقيقة، لا يمكن استشراف المستقبل ومعرفة التقلبات الكونية، لماذا؟ لأن الإنسان هو الكائن الحر في الكون، كل الأشياء لها قوانين لها ثوابت تحكمها، لها حقيقة مطلقة مجربة تسري عليها، إلا الإنسان، هو الكائن المتقلب المنقلب المتغير الساذج والغبي، وهو كذلك الذكي الحر المتحكم، المفكر والمبدع.
إن إنسانية الإنسان تعني إدراك كينونته وطبيعته وعدم الخروج عنها، ولإدراك هذه الكينونة نحتاج لمحددات خارج الذات الإنسانية لأن هذه الذات تفتقر لغيرها من الذوات، تضعف عند استقلالها عن الأشياء والجواهر الخارجية. ويقال غالبا أن معرفة الذات تكون بتحديد الآخر المقابل، وهنا تقابل إنسانية الإنسان، حيوانية وغريزية الحيوان، فالحيوان هو الكائن “الآخر” الذي يحدد كينونة الإنسان ويجليها. فما نشهده من أفكار شاذة وأخلاق شاذة وهيمنة شاذة وعلاقات شاذة وشبكات اجتماعية شاذة وأسر شاذة وأنظمة شاذة كلها تناقض الإنسان الذي أوضعها لنفسه، لأنه نزل بجوهره نحو الحضيض نحو حيوانيته، لأنه نسي ذاته، ونسي مالك هذه الذات.
سيبقى الصراع بين الذات “الخالصة” المدركة لإنسانيتها وبين الذات “الغافلة” الناسية لإنسانيتها. والذات الثانية لن تستطيع إدراك الحقيقة كما هي مهما حاولت حتى ترجع إلى الذات الأخرى أي حتى تتخلص من غفلتها، لأن الحاجب عن إدراك الحقيقة هو نسيان الكينونة، ونسيان هذه الأخيرة هو خروج عن المعيار الأول لإدراك الحقائق وتفسير الوقائع كما يجب.
إن الذات الخالصة -كما عرفتها- هي الذات الوحيدة القادرة على إيجاد الجواب الأمثل والأقرب للأسئلة البشرية. وهذا يعني أننا كلما ابتعدنا عن هذه الذات كلما ابتعدنا عن الحقيقة.
إن ما يميز الأولى عن الثانية هي أن الأولى حرة والثانية مكبلة بسلاسل الغفلة والنسيان، وعليه فالحقيقة بطبيعتها حرة، تحتاج لذات حرة “خالصة” تصل إليها كي تحقق غايتها الوجودية. إن أصعب تحدٍ أمام الإنسان هو الحفاظ على إنسانيته، لأن تحقيق هذا الهدف هو الحل الوحيد لخلق عالم أكثر حرية، أكثر سموا، أكثر عدلا، أكثر صلاحا، أكثر حضارة.