رمضان الذي فقدت

لا أظن أحدا ممن اغترب لا يفتقد إلى لمة العائلة وزحمة الأصوات قُبيل انطلاق مدفع الإفطار، ومحاولات الإيقاظ للسحور دون جدال. ولا أعلم بوجود مغترب لا يتراءى له بين طيّات الذاكرة صوت التراتيل المنبعثة من المآذن عند السحور، وصوت الترانيم القادمة من المذياع عند الفطور، وجميع التفاصيل الحسية المتجسدة بالروائح والأصوات، والشعور الذي يرافقها سواء كان حنيناً مع أمل بالرجوع أم أنيناً مع ألم إذا كان الموت قد طال أحد أفراد الأسرة.
وإذا خصصنا مغتربي البلاد الأجنبية بالكلام نجد أن حرمانهم من سماع الأذان ظمأ لا يرتوون بدونه، وتسارع المصليين إلى التراويح حاجة نفسية أكثر من مشروعية سنتها، وتنافس الصحاب لإتمام ختمة القرآن وتدارسها ضرورة للفوز بسباق الأجر. وما تفتقده نفسي في رمضان وأنا منفية في الغربة أتلفت حولي ولا أرى أثراً له في البلاد ولا في العباد أكثر مما يحصى.
فبالإضافة لكل ما ذكرته سابقاً؛ أفتقد البساطة التي كانت تملأ موائدنا، والبركة المصاحبة للكثرة. أفتقد تشابك أصوات دعاءنا، واختلاط الآيات المرتلة من أفواه القرّاء قبل الأذان، فهذا يُرتّل حزبه وذاك يقرأ وِرده حَدراً. أفتقد المسابقات الرمضانية التي كانت تُقام في مسجد الحي لتنشط ذاكرتنا الدينية وتحفز جهود البحث عندنا بين كتب الفقه والسيرة والحديث للوصول إلى الجواب الصحيح. أفتقد تنبيهات أمي حين نبالغ في الطلب سائلين أصنافاً أكثر فتوضح أن رمضان شهر تنوّع العبادات لا تنوّع الأطباق،
وتَزوّد بالحسنات لا زيادة الأوزان، وشهر ملء الموارد لا مدِّ الموائد. أفتقد السكينة المرافقة للجوع، والأُنس الذي يأتي مع التعب، ولا أعلم لماذا بقي لنا من صيامنا الجوع والتعب وتضاءلت السكينة وخفّ الأُنس.
أكان انشغالنا عن معناه الروحي بالتحضير له من زينة ومشتريات ومأكولات مجمدة ومسبقة الصنع هي ما أفقدت رمضان حلاوته، أم التبذير والتكلف الذي غطى موائدنا فاستولى على أحد أهم معاني رمضان وهي التخفف. ولا أعلم تسمية الشعور الذي ينتابني في كل مرة أرى فيها مظاهر الزينة والاحتفال؛ أهو فرح لأن معالم التعظيم مازالت حاضرة في قلوب المسلمين، أم حزن لاختصارهم عليها متشاغلين بها عن تهيئة قلوبهم مكتفيين بها عن الإعداد الحقيقي له في نفوسهم. فقد كان رمضان شهر العبادة وأصبح شهر المسلسلات.
وكان شهراً للقرآن فانقلب ليصبح شهر التحضيرات. وكان شهر استجابة الدعاء فعاملناه شهر إجابة الولائم و الدعَوات. وإذا كان السلف يعيشون نصف العام تجهيزاً روحياً استقبالاً  لرمضان والنصف الآخر في الدعاء بأن يُتقبل منهم، فما بالنا نتجهز له بيومين ونثق بأن الله تقبل منا يسير أعمالنا. هل كان إيمان السلف أقل من ثقتنا أم أن كفَّ الرجاء غَلبنا وتَناسينا كفَّ الخوف كسلاً؟
ربتني أمي أن رمضان للحصاد وليس للموائد وقت، وأن ما يعده المرء لرمضانه شيء أعظم من تزيين موائده، بل لتكبير موارده
وأن الزنية الحقيقة تكمن في القلب ولا علاقة لحبال الزينة التي نعلقها بإظهار معنى رمضان، ولا يوجد مسلم في بلد أجنبي لا يحن لصوت الأذان ويبقى لأذان المغرب في رمضان ميزته الخاصة، ربما لأنه يخلي مسؤوليتنا من تحري الوقت، ربما لأنه يشوقنا لنداء نطمح إليه حين ندخل الجنة فلا حساب بعد اليوم وحنينا إليه يذكرنا بالعهد الأول الذي أخذ علينا.