طوق النجاة
من منّا لم ييأس يوما ما وضاقت به الدنيا بما رحبت، وفقد بوصلة الاتجاهات الصحيحة في حياته، بل وأضاع طريق الصواب رغم كونه من أصحاب الحكمة والكلام الحق والتفكير الإيجابي في كل أمور الحياة رغم شدتها وصعوبتها. في بعض الأوقات تعترينا أحاسيس الحزن والعصبية، سوء تقدير الذات والضجر من الحياة بأكملها وقد يصل الحد بالبعض إلى درجة فقدان الإيمان ونسيان قيم الإسلام والدين الحق، يشعر المرء خلالها بالإحباط والاكتئاب بعدما أصبح تفكيره سلبيّا وسوداويََا ومن ثَمّ يفقد نشاطه وحيويته المعهودة لتحقيق أهدافه التي كان يعيش من أجلها. فكل من فقد الأمل والشغف في رحلته الحياتية فقد أضاع طوق نجاته وبوصلة أيامه بسبب أمواج بحر الحياة العاتية التي لا ترحم أحدََا كيفما كانت ديانته وشخصيته، ولن ينجو منها إلا من قدّر الله له ذلك.
لذا فمن الواجب على الإنسان أن يتحلّى بالصبر والحكمة في كل الأوقات العصيبة والظروف القاهرة والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية وأن لا ينساق وراء أول إخفاق وفشل.. لا أن يفقد القوة والرغبة عند أول عقبة قد تعترض طريقه، فالحياة لا تمضي سهلة على أحد، ولكل ظروفه الخاصة ومشاكله المتراكمة التي أغرقته في جبّها والتي لا يعلم بها إلا الله وحده. فالظروف لا تترك أحدََا دون أن تغير فيه شيئا، إنها تغير أولوياتنا رغم أهميتها، تغير مفاهيمنا ونظرتنا للحياة، تفرض علينا التغيير لدرجة ننسى فيها ذواتنا ونصبح نسخة مختلفة عما كنّا عليه.. فاختر النسخة التي تريد أن تصبح عليها منذ الآن واعمل عليها.
فالفرصة لن تكون من نصيب إلاّ من يتحلى بالصبر والشجاعة والهمة العالية لبلوغ مراده عن طريق البحث عن الفرصة السانحة والقيام بالمستحيل من أجلها والعمل المتواصل على تحقيق أسبابها دون توقف، لا من ينتظرها وهو جالس عاقد ذراعه في مكانه لاعنََا الوضع الذي يعيش فيه صباح مساء. إنّ الحركة والتوكل على الله هي محرك الأرزاق كما يخبرنا الله -عزّ وجل- بقصص العديد من الأنبياء في القرآن الكريم. فموسى عليه السلام حثّه الحق سبحانه بأن يضرب الحجر بعصاه {اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ} فضربه، فانفجرت منه اثْنتا عشرة عَينا من الماء لقومه بعدما كانوا في حاجة ماسة للماء في تلك الفترة. وقال لنوح عليه السلام {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} أي اصنع الفلك لتنجو من الطوفان أنت ومن اتّبعك من المؤمنين المتوكلين على الله. وقال لمريم عليها السلام {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} رغم ما كانت عليه من ضعف وألم المخاض أثناء وبعد ولادة نبي الله عيسى عليه السلام، ولكن الله أمرها بأن تهزّ النخلة من فوقها لكي تحصل على طعامها وقوت عيشها..
فأنت كذلك أيها العبد الضعيف، توكّل على الرزّاق، تحرك وخذ بالأسباب لكي تعيش وتبقى حيّا وحيويََا في أفكارك وقدراتك.. فالأشجار تجدد أوراقها عندما تذبل، والورقة التي تموت تسقط من الغصن مباشرة لينبت مكانها ورقة حية جديدة تبعث الأمل في النفوس. هكذا هي حياة الإنسان لا بدّ من تجديد الأمل باللّه بين الحين والآخر عن طريق الكشف والتنقيب عن مصادره داخل أعماق نفسه لمعرفة هويتها ومواطن ضعفها وقوتها ليعرف الوسيلة المناسبة لتحقيق ما يريده بالضبط من هذه الحياة الدنيا، لا أن يعيش تائه بين مدّها وجزرها.
فالدنيا ما هي إلا مزيج من كل شيء، من الشيء ونقيضه، مزيج من الحب والكره، من الشر والخير، من الربح والخسارة، من الصحة والمرض، من الحرب والسلم، من الحزن والفرح. لا شيء يدوم فيها، الكل يأتي ويرحل، كل من عليها فان، تمضي الحياة بنا أو بدوننا، شئنا أم أبينا. فما دامت الدنيا هكذا، فلماذا لا نحياها بأمل ونحن نسير في دروبها؟! نتعامل بحب في علاقتنا مع الناس، نعيش بالرضا والقناعة، وبالحمد والشكر للَّه على كل حال.
بالإضافة لما سبق، فالأمل هو طوق النجاة في متاهة الحياة، إنه الوقود الأساسي للإنسان للسير في تضاريس هذه الحياة الوعرة وضغوطاتها التي تزداد مع التقدم في العمر، هو الشجاعة والهمة العالية التي تلهب الشغف والطموح في دواخلنا للمضي قُدمََا في الاتجاه الصحيح نحو القمة دون تكاسل وتراخي. شعور يجعل المرء في حالة من الرضا والتفاؤل تجاه ذاته وتجاه الآخرين مهما كانت طبيعة النتائج إيجابية كانت أو سلبية وكذا الحوادث الصعبة التي تمر علينا ولم تهزمنا.
إن الأمل متواجد معنا في كافة المواقف ومجالات الحياة، يرافقنا طيلة العمر ليل نهار، ولد معنا منذ أن خرجنا من بطون أمهاتنا وأبصرنا الأشياء من حولنا ولمست أيادينا مكونات الحياة، نعيش في بداية حياتنا فترة طفولتنا بشغف وأمل أن نصير شبّان ونعيش ثانيا فترة الشباب على أمل تحقيق أمانينا التي لطالما كانت أحلام الطفولة، بعدها نعيش الرجولة والمروءة بأمل التعلم من أخطاء شبابنا وتحقيق ذواتنا كما يجب، وفي مرحلة ثالثة نعيش الشيخوخة بأمل أننا اقتربنا من مصيرنا، وغالبََا ما يتمنى الناس الكبار في السن، أن يعيشوا لسنين أكثر لتحقيق الأشياء التي لم يتمكنوا من فعلها، وكذا مصالحة الذات وتزكيتها. فهكذا هي الحياة لا بد لها من أمل لكي تستمر بطريقة سوّية.
وفي الأخير، لا أريد أن ننسى أنّ من الأسباب الرئيسية التي تحجب عنا الأمل وتخفيه في حياتنا هو الشعور بالخوف من الفشل والإخفاق قبل القيام بالتجربة والخطوة الأولى، هذا الخوف يقف حجرة عثرة بين المرء أحلامه، ممّا يجعله عاجز عن تحقيق المراد. بل بالعكس يجب أن نكون متفائلين واثقين بأن هناك سعادة تنتظرنا في المستقبل تجعلنا نتحمل الصعاب ونمضي قدمًا بثقة وصبر، فالأيام الصعبة لن تدوم، وسيأتي يوم ننعم فيه بالسعادة والفرح والنجاح بفضل إرادة الله أولا وبمجهوداتنا ثانيا. ولنعش بمبدأ ديننا الإسلامي الحنيف الذي يحثنا على التوكل على الله في كل الأمور الدينية والدنيوية، بالنظرة الوردية للحياة والتفاؤل دائمََا بالحصول على كل ما نرجوه من خير ونجاح، فكل من تفاءلوا بالخير وجدوه.