قراءة في رواية موسمُ الهجرةِ إلى الشمال للطيب صالح

1٬851

ضائع فاقد الوجهة يجوب البقاع، تارة يترنح مسلوب الذات، وأخرى تائها في الحياة. تشابكت عليه السبل، وتكالبت عليه مجريات الأحداث. إنه المستعمر في قلب أرضه، المغتصب حقه، والمكلوم فؤاده، فهل تراه قادرا على ترميم مخلفات الاستعمار، والانبثاق من جديد في ركام الدمار، والنهوض سليما معافى من عوائد الأخير -الاستعمار- عليه نفسيا، وسلوكيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا وسياسيا؟

للإجابة عن هذا السؤال، نعود لأحداث رواية الكاتب السوداني الطيب صالح ذي الصيت الذائع “موسم الهجرة إلى الشمال”، هذه الرواية قد تبدو للبعض من روايات الأدب الإيروتيكي، إلا أنه خلال الغوص في بطون حبكتها نجدها من أذكى ما كتب في أدب ما بعد الاستعمار. إن الحبكة الروائية هي عبارة عن حكاية ضمن حكاية، من جهة، تشرح زوايا المثلث المحظور في المجتمعات العربية (سياسة، دين، جنس)، وتعكس صورهم الأصلية بطريقة متناهية المكر في النقد. ومن جهة أخرى، توظف الخطاب ما بعد الاستعماري لشل الهجوم الأدبي المنظم الذي وصف المستعمر بأشنع الصفات، وألبسه أذلها وأبخسها، لتكون بذلك ردا حرفيا قويا، ولكمة روائية موجهة لمفاصل الخطاب الاستعماري الغربي.

مصطفى سعيد الفتى السوداني يتيم الأب، ذو أم من عبيد “الزوركة” التي تخدم أسر قبائل “العبابدة”، تلقى تعليمه في إحدى المدارس البريطانية، لينتقل بعدها لإتمام مساره الدراسي في الثانوية في مدينة القاهرة تحت إشراف ورعاية أسرة روبنسون كفتى عربي بلسان أعجمي فصيح، وعقل فطن ذكي، وطباع باردة خلفها اليتم، والاستعمار، وغياب حنان الأم وعطفها، ونظرة المجتمع الدونية. ينتقل مصطفى سعيد بعدها إلى لندن لإكمال مساره الجامعي والذي ينضوي خلف لوعة الانتقام، وشرارة الثأر من مجتمع لا يرى نفسه سويا مع غيره من ذوي البشرة السوداء، إلا أن منحى الانتقام سيتخذ مجرى مختلفا، ليتم تفعيل مخططه في غرفة الأوروبي ذات الطابع الشرقي، وتحت إضاءة خافتة بألوان متماهية. فجذب العذارى من أصول عرقية خالصة، وتمزيق مشاعرهن الرقيقة كانت مهمة سهلة ونمطا يجيده باحتراف “مصطفى سعيد”، فشرارة الثأر كانت تغذيها نظرات الاحتقار والتمييز العرقي التي تخترقه كالأسهم الحادة فتدمي إنسانيته.

إلى جانب ذلك، يصور الطيب صالح في روايته نمطا من الانتقام مخالف لما هو معهود في أنماط الثأر؛ فالأوروبي باعتباره كائنا ساميا ذا عرق خالص فإن امتزاجه بعرق منبوذ في سياسة مجتمعه وخصوصيته، يعتبر أمرا فادحا لا يمكن لذي عقل متشعب بأدران العنصرية أن يهضمه، وهذا ما ارتأى الكاتب أن يقحمه في روايته كنوع من التمرد على سياسة المجتمعات الأوروبية. فزواج جين موريس بمصطفى سعيد هو بمثابة تحرر من قيود رسمها المجتمع، يتجرد فيها كلا الطرفين من تاريخهما، وحضارتهما واختلافهما، وعقلهما إلا من شيء واحد هو إنسانيتهما، ليمتزجا معا كإنسان واحد. هذه العلاقة يصورها الطيب صالح في المقابل، كنوع من السيادة والسطوة، كره وحب، تقارب وتنافر، ائتلاف واختلاف، علاقة يشوبها خليط متضاد من المشاعر، ينتهي بمأساة دموية.

إذا عدنا لصورة المجتمع الشرقي في الرواية، نجد الكاتب يميط اللثام عن حقيقة تدينه المزعوم، فبينما الأنامل تسبح وتستغفر، ينشغل اللسان بالحوارات الساقطة، والأحاديث الفاسدة عن العلاقات الجنسية بينما تتوسط ثلاثة رجال امرأة مسترجلة تسرد قصصها الإيروتيكية مع أزواجها المتوفون، وهنا يكمن عين التناقض في فهم الدين إذا ما أخذ عن جهل وتخلف، فالزواج باعتباره سنة من سنن الحياة، وعقد مقدس شرعه المشرع ليسكن الزوجين أحدهما الآخر وجعل بينهما مودة ورحمة تحفظ عشرتهما وتمد عمرها، نجد في الرواية أن مفهومه لا يكاد يغادر أسوار العلاقة الحميمية المجردة من اللين والرحمة، بل أنها أحط ما تكون عن علاقة الجارية بمالكها، فالمرأة مجرد آلة لإشباع شهوتي البطن والفرج، مجردة من أبسط حقوقها، ولا يسمح لها أن تطلب أو ترفض، بل أنها وجدت لتلبي في أي وقت وحين، وهذا يتعارض وأحكام الدين الإسلامي الحنيف.

يعطي الكاتب مثالا بحسنى أرملة مصطفى سعيد، التي أرغمت على الزواج من كهل بلغ من العمر عتيا، وقد شغفته حبا، ولأنه شيخ ميسور الحال ذا شأن في قبيلته، جبل قلبه على حب النساء، لا يمكن أن يرد له طلب، أو يدق بابا ويعود خائبا. حسنى بالرغم من رفضها رفضا قاطعا إلا أن والدها أرغمها على الزواج منه خصوصا وأنها أرملة، فالألسنة كلها ستطال عليها بالقذف في العرض إن هي رفضت، أضف لها أن كلمة الرجل لا يمكن أن تسفط في عرف القبيلة، ما أودى بها مرغمة للقبول، لكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، فالكهل بحكم سلطته وسيادته كرجل لم يتقبل تجاهل امرأة له، وعدم رغبتها به ليحس بذلك أن رجولته قد خدشت، ما دفعه لاستعمال القوة إلا أن ذلك أرداه قتيلا غارقا في دمائه، لتلحق نفسها به آخذة معها ألمها، مخلفة وراءها كلمة لم تجرؤ امرأة على التفوه بها وهي “لا”.

إن ربطنا الصلة بين صورة موت جين موريس على يد مصطفى سعيد، وموت ود الرايس على يد أرملة الأخير، نجد هناك تشابها في المعنى وهو “التحرر” فالأول يترجم فعله كنوع من التحرر من أدران الاستعمار ورد الصاع لمجتمع عانى من عنصريته ونظرته الدونية إليه الشيء الكثير، بينما الصورة الثانية تمثل تحررا من قيود الرجل وسطوته، كنوع من إثبات إنسانيتها ووجودها، بأنها لها ما له وعليها ما عليه، وقد حباهما الله معا بملكة عقلية وقلبية تجعلهما في الحقوق والواجبات سواء.

يصور الكاتب أيضا جملة من معاناة المجتمع الشرقي الاقتصادية والسياسية، فبالرغم من توفره على موارد وخيرات طبيعية بحكم احتضان أراضيه لنهر النيل، إلا أن حسن تدبير هذه الخيرات يحرسه ظل خفي يتحكم فيه كيف يشاء. ليس هذا فقط، بل بتوظيف الأوروبي لبيادق من أفراد المجتمع الشرقي يحركها في اتجاه المسار الذي يخدم مصالحه الدفينة وغايته السامية. فالمرء من أجل أن يحظوا بكسرة خبز إضافية قد يبيع دمه وعرضه إذا ما تم إقناع عقله الباطني بأنه لا يستحق العيش بكرامة، وأنه مجرد عبد عند سيده الأوروبي، فمهما ادعى بعض أصناف الأوروبيين خلوهم من درن العنصرية، إلا أنهم أمام بشرة سوداء داكنة تجدهم جلد وقد تجردوا من آدميتهم وإنسانيتهم في سبيل الخوض في مصالحهم الشخصية التي لن تعود عليهم إلا بالنفع والقوة والثراء. وفي النقيض، ستقحم الشرقي في دوامة الفقر والشح، وتقوقعه في زوايا الجهل منبوذا، وتحركه كدمية الكراكيز المسلية. فعناؤه وشقوته تسلية يتلذذ بها الأوروبي المسيطر.

إن الرواية تعد تجسيدا فعليا وحرفيا لما عاناه ويعانيه المجتمع الشرقي خاصة، والمجتمعات التي طالتها يد الاستعمار عامة، فتعري المخبوء، وتتلو المقروء، وتكشف الوجه الحقيقي لما خفي خلف أقنعة مزيفة. فالمرء مهما عانى وظل يعاني سيأتي عليه يوم ينقضي فيه صبره، ويزاح ضعفه، فيتمرد ويحتج ويتجرد من قيود حكمته سنين طوال.

خلاصة، فإن نهوض أمة بعد استعمارها، أشبه بقيام المريض من سقم نخر عظامه، وأهلك روحه. فهو يحتاج عزيمة وقوة واستقلالا خالصا لا يشوبه شائب السلطة الخفية، أو التدخل غير المباشر فيها من لدن متربص سلك طريق الصلح والصداقة وفق بنود ملمعة، يفلترها “الصلح” و”المصالح المشتركة” لإكمال مساره الفعلي لغاياته وأهدافه المندسة في قوالب منمقة. بالإضافة إلى فطنة وذكاء يخولا له قراءة عواقب التساهل والصفح عملا بالحديث الشريف الذي يقول: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)؛ رواه الشيخان.