ظاهرة انتشار الأخبار الخاصة بالجرائم

1٬318
مع ثورة الاتصال وتدفق المعلومات وتعدد وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، أصبح الحصول على المعلومة مُتاحًا في كل وقت وحين. وساعد على ذلك انتشار الإذاعات والفضائيات، بعد انتشار الصحف الورقية. وجاء الإعلام الإلكترونيّ ليجعل العالَم يعيش في غرفة واحدة -بعد أن كنا نقول: في قرية واحدة-، ويتبادَل المعلومات عبر الشابكة – الإنترنت- بسرعة فائقة.
ولعل المخضرَمين، في وطننا العربيّ بصفة خاصة، الذين أدركوا فترة الإعلام الرسميّ الوحيد، ويعيشون الآن فترة تعدد وسائل الإعلام، لعل هؤلاء يتذكرون نُدرة الأخبار التي كانت تصل المتلقي، بسبب ضعف مؤسسات صناعة الأخبار من جهة، وقلة الوسائل الناقلة للخبر من جهة ثانية، والتي كانت تقتصر، بصفة عامة، على الإذاعة.
كنا، في تلك الفترة، نسمع مرة في السنة أو في الشهر، بوقوع حوادث من نوع: سقوط طائرة، حريق يشب في بعض الغابات، أمطار غزيرة تُحدِث فيضانات، إلخ. وكانت تلك الحوادث، في معظمها، عبارة عن كوارث طبيعية. وعندما نقارن عدد تلك الحوادث ونوعيتها بالحوادث التي تتصدّر اهتمامات وسائل الإعلام، في الوقت الراهن، نجد أنّ أخبار الجرائم -في أيامنا هذه- تتكاثر بشكل رهيب، في الصحف الورقية والإلكترونية -بصفة خاصة- حيث لا تخلو صحيفة من أخبار مثيرة للرعب والقلق، لدرجة أن الهاجس الأمنيّ أصبح يسيطر على الشخص العادي أينما حل وارتحل. وقد تفننت وسائل الإعلام في إظهار الأسلحة التي تنفذ بها هذه الجرائم، معللين ذلك بأن السلاح يخدم الخبر. وأصبحت جُثث البشر تُعرَض على الشاشات وكأنها لحوم حيوانات معروضة في الأسواق.

ومن الملاحَظ أنّ بعض هذه الأخبار يخدش الحياء ويدنِّس الذوق السليم، خاصة عندما يتعلق الأمر بالممارسات المخلة بالشرف وبالسلوك القويم، والتي كانت -إلى عهد قريب- تدخل في باب “المسكوت عنه”. ومن أجل توضيح خطورة انتشار هذه الأخبار، وما تحدثه نوعيتها من تأثير وصدمة لدى المتلقي، فقد ارتأيتُ أن أشير إلى نماذج منها، مثل: الاعتداء بالسلاح الأبيض على المارة في وضح النهار. لصوص يقتحمون حافلة للركاب، من أجل الابتزاز والسلب تحت تهديد السلاح. زوج يهشِّم رأسَ زوجته. شاب يذبح أخته من الوريد إلى الوريد. شاب يقتل أمه. رجل يقتل أبناءه. أمّ ترمي أبناءها في بئر. العثور على جثة رضيع في صندوق قُمامَة. لصوص يخدِّرون أشخاصا ويسلبونهم ما بحوزتهم من أموال. اكتشاف عصابة تحترف تزوير الوثائق والأوراق النقدية…والقائمة طويلة! ولا أدري، هل هذه الجرائم كانت موجودة -بهذا الحجم- وكشفت عنها وسائل الإعلام، أم أنها زادت حدةً وتفاقُمًا، ممّا جعلها تطفو على السطح؟
ومهما يكن من أمر، فإننا جميعًا مدعوون للتعامل مع هذه الظاهرة للحد من أسبابها والتخفيف من آثارها السلبية. وأقترح على وسائل الإعلام أن تخبر الجهات الأمنية المعنية بما تتوصل إليه من أخبار، في هذا المجال، بدلا من ترويع المجتمع الآمن بنشر هذه الجرائم البشعة. وهذا الدور مطلوب كذلك من المواطن العادي، الذي يجب عليه أن يخبر السلطات المختصة، بالسرعة المناسبة، بمرتكبي هذه الجرائم لينالوا جزاءهم. وليس معنى هذا أنني أطلب من الإعلام إجراء تعتيم كامل حول الموضوع، وإنما المطلوب -عند الاقتضاء- هو صياغة الخبر بمهنية تجعل المعنيين والمهتمين يقومون بالاحتياطات والإجراءات المناسبة، دون أن نجعل المواطن يشعر بالخوف وعدم الاطمئنان ويصاب بالعقد النفسية التي قد تفضي إلى الاكتئاب. يضاف إلى ذلك، أنّ الإنسان يمكن أن يتعود على هذه الظواهر، من خلال ما يُنشَر من أخبار، بحيث يصبح الأمر عاديا بالنسبة إليه. إنني ما زلتُ أتذكَّر أنّ آباءنا وأجدادنا كانوا يتناقلون أخبارا مُفادُها أنّ شخصا من قبيلة معيَّنة، اختفى عن الأنظار وهاجر إلى وجهة مجهولة لأنّه ارتكبَ جريمة أخلاقية غير مقبولة، بالنسبة إلى قبيلته، ومن وجهة نظر المجتمع الذي يعيش فيه. والسبب في هذا التصرف، هو أنه لو لم يختف عن الأنظار لَجَلَب العار إلى أهله وإلى المجتمع برمته. ولعلنا نلاحظ أنّ إنسان اليوم في القرن الحادي والعشرين، قد تَعايَش مع هذا النوع من الجرائم الأخلاقية، وأصبح مستعدا -نفسيا- للتمرُّد على قِيمِ المجتمع وعاداته الفاضلة، دون خَجَل أو وجَل، وهنا تكمن خطورة الإكثار من نشر هذا النوع من الأخبار، بطريقة غير مِهْنِيَّة، كما أشرتُ إلى ذلك آنفًا.
إنّ الجرائم الأخلاقية التي كان يندى لها الجَبين، أصبحتْ أمرًا عاديا، بل إنّ بعضهم يتظاهر بارتكابها، بدلا من أن يستر نفسه ويطلب الستر من خالقه!
يُضافُ إلى ما سبق، ما يُنشَر من آراء منحرفة تحرِّض -ولو بطرق غير مباشرة- على العنف واتخاذ الوسائل الملتوية للوصول إلى الهدف، دون أيّ مراعاة للجوانب الأخلاقية. وبناءً على ما تقَدَّمَ، فإنني ألتمس من القائمين على وسائل الإعلام أن يحرصوا -كلّ الحرص- قبل نشر الخبر، على أن يكون منسجِمًا، شكلًا ومضمونًا، مع ثوابت الأمة، فالإعلام سلاح ذو حَدّيْنِ، أحدهما يبني والآخَر يهدم.