«لأنك استثناء»: تجلّيات الذات في مواجهة طغيان الواقع

982

عندما يكون الشعر من أهم أشكال التعبير عن اجتراح بلاغة البوح، تتسامى قصائد «لأنك استثناء» للشاعرة سلمى جمو، متحولّة لحناً وجدانياً طافحاً بالأحاسيس والرؤى والمواقف، وتتحوّل تجربتها الشعرية في النهاية إلى بوح، تفصح عن دواخلها، وتبوح بخلجات النفس، فيدرك القارئ من خلاله شخصية الكاتبة، التي تفجّر في النفس لواعج المعاناة، من خلال ما تنسج قلمها فسيفساء الكلمة، وتبدع في رسم أيقونة الهوى، متسلّحة بالحبّ والأمل، تحارب هوادة أمراض الحياة، بما تحتويه من الكره والفساد والشذوذ، التي تسلب إرادة الروح.

تناولت المجموعة قضايا فكرية وفلسفية عن حياتها وواقعها، ليكون الغزل والفلسفة محورين أساسيين للديوان، حيث يتنوع ما بين الحبّ والعشق والجمال وتجلّيات النفس الإنسانية ومعالجة لبعض قضايا اجتماعية ووجدانية متنوّعة.

وقد صدر الديوان عن دار «ببلومانيا» للنشر والتوزيع في القاهرة، عام 2021م، وتعتبر باكورة أعمالها الشعرية، إذ يتكون من ثماني وعشرين قصيدة، توزّعت على 144 صفحة من قطع الوسط.

جاءت لوحة الغلاف «الزرافة المحترقة» للرسّام الإسباني السريالي سلفادور دالي، اختزالاً عميقاً لرؤية الكاتبة الخاصة في الحياة، حيث تجد تجلّياتها في منطوق القصائد، فاللوحة هنا تعكس مضمون القصائد التي دوّنتها جمو من عمق معاناة هذا الكون، الذي دنّسه البشر بدناءة أعمالهم، فالمرأة في اللوحة تكشف من خلال عقلها الباطني أسرار حياتها، وتلك الأدراج التي على جسدها ترمز إلى خفايا النفس، التي يكشفها دالي من منظور التحليل النفسي الفرويدي، واللوحة بشكل عام تعّبر عن مأساة الأنثى في المجتمعات الشرقية، فيها الكثير من اليأس والعجز، وكذلك إلى موت البشرية، فتقول في قصيدتها «شيزوفرينيا الكون»:
«دمارٌ
خرابٌ
وموتٌ يتراقصُ على أنقاض الحياة
هي رقصةُ رغبة
بكلّ كريه
مُتفسّخٍ
مُتآكلٍ
بكلّ صَرخةٍ مشوّبةٍ ضعفاً».

تهدي ابنة مدينة كوباني ديوانها، إلى تلك الذوات المهمّشة المنسية، التي لم نستطع أن نتعامل معها بلطف، إلى جنون الأنا في رفضها للأنا الأعلى، وتخلّصها من الظلمات والعقد النفسية بانقشاع ضوء الحقيقة.
لغة الديوان أنيقة ومنمّقة، مختارة بعناية، الألفاظ جزلة وصعبة ترهق القارئ أحياناً في البحث عن معاني بعض الكلمات في المعجم، حيث تلعب الشاعرة بالبناء النحوي للجملة، بالرغم من اتّزان القصائد في بنيته الشعرية في مستوياتها المختلفة من حيث الإيقاع والأسلوب والتشخيص، وقد تختلف قصائد المجموعة في الموتيفات والمضامين المطروحة من جهة، ولكنها تتساوى في الصيغة الشكلية والبنائية وإبراز القيمة الجمالية فيها من ناحية أخرى، كلوحة بانورامية شاملة وبنية واحدة تزيدها جمالاً وبهاء، ولتصبح باقة ورد مزركشة الألوان بعبق الحب، وهنا نلتمس ذلك في الصفحة الواحدة والعشرين، داخل قصيدة «خطيئتي الشهية»:
«عندما ألمسُك
الحروفُ غيمةٌ حُبلى تستحيلُ
عندما أتحسّسُك
العواطفُ زوبعةٌ خريفيّةٌ تتحوّلُ.
جسدُك
أبجديةٌ
تحيكُ نفسَها بلا قواعد
بلا نحويين يحوّرونها كما يشاءُ تعنّتهم».

في القصائد الأولى يترنّح الحبّ الصوفي معلنة وجوده وبقوة، وجميعها تنبع من سيكولوجية الكاتبة المتيمة بعشق الحياة والذات، تضفي عليه تدفّقاً عاطفياً تسهم في ثراء النصّ جمالاً وإبداعاً، ففي نصّ «تُرّهات»، نتلمس ذاك العشق النابع من ذاتية الشاعرة، فتقول:
«وما همّني ما تقولُ
إن كنْتَ ساديّاً في هواك؟!
سعيك الحثيثُ لتحويلي جاريةً
لهواك يدميني في عمقي
أنا يا أنت
لسْتُ بمازوشيّة
لأشحذَ الهوى بالجلد والسياط
حصانٌ جموحٌ
لا يغريني سوى عشق بدائيّ في برارٍ عذراء.
دعني أتحرّرُ منك
كُفّ يدَ عواطفِك عن رقبة أحاسيسي
فما أنا امرأةُ السبايا
التكايا
الأسرّةِ المتآكلةِ في مواخير عالمِك الذكوريّ».

كما تمتاز الشاعرة بقصائدها بحسّ تأمّلي عميق، وموقف فكري واضح من قضايا عديدة، ما زالت في ظلّ هذا العالم المقيت بواقعه المتأزّم والمضطرب بالحروب والفساد ومجتمع ديستوبيّ قاسٍ لا يرحم، تطرح سلمى جمو شذوذاً جنسياً خطيراً متفشٍّ وبكثرة في عصرنا، الذي انهار فيه القيم الأخلاقية وتشرذم الروح البشرية في البحث عن ملذّات شهوانية آنية، بقتل أرواح بريئة أينعت في الحياة، تاركة شرخاً في الروح والبدن، ففي قصيدة «بيدوفيليا» تصرخ في وجه الإنسان البشع الجشع والشاذّ:
«عن افتراس حياةٍ بكْرٍ
عن وهم إنسانيّةٍ زائفةٍ
نتبجّحُ بها بخُيلاء
عن أنسنة ملائكةٍ
عن سقاية براعمَ
بمذي ومني
محكومان بملذّات آنيةٍ
عن أشياء وأشياء
تُرتكبُ في وضح جرأةٍ
تستمدُّ عزيمتَها من شرق فاجرٍ
يرى بطولاتِه على أسرّة آسنةٍ
بذنوب الشهوات
لتُنجَّسَ سنابلُ
في بركة من تحلّلٍ وتفسُّخ
تاركةً شرخاً في جدران أبدانٍ وأرواحٍ
ذنبُها الوحيدُ
أنها أينعَتْ في تُرَب كبتٍ
يُسقِطُ
يُفرّغُ نفسَه
في شرج طفولةٍ
مهبلِ ضعف
أفواهِ بؤس».

بحسّ تأمّلي واعٍ، وبموقف فكري واضح وعميق من قضية ما زالت من التابوهات المحرّمة في الشرق، ويعتبر الاقتراب منها لعباً بالنار بالمعنى العام، لكن الشاعرة تجرّأت وبكلّ ثقة أن تطرح هذه المجزرة الذكورية الدنيئة للشهوة الحيوانية في قتل براءة الطفولة، ففي قصيدة «مجزرة جسد أم روح؟» تسرد تلك المجزرة بحقّ الطفولة والإنسانية، وبأسلوب أدبي شيق:
«ذاتَ مساءٍ
تسلّلَ على أصابع القرف
انسلَّ تحتَ ملاءةِ الترقّب
اندسَّ في فراش شهوةٍ حيوانيّةٍ…
أناملُه
مضطربةٌ
شبقةٌ
جبانةٌ…
باتَتْ ترسمُ دوائرَ وهميّة
على جسد طفوليّ،
تتتبّعُ خريطةَ بدنِها
باحثةً عن فجوات
انزلاقاتٍ
فتوحاتٍ آنيةٍ».

تعتبر تجربة سلمى جمو الشعرية رسالة فنية متسلّحة بأدوات البلاغة والصياغة الفنية؛ فشعرها متدفّق من شلال وجداني، هي بمثابة تحدٍّ وتفسير للواقع المتردّي الذي نعيشه، فيه الكثير من الحبّ والأمل، تبحث عن الحقيقة المتوارية خلف خيوط الظلام عنوة باتجاه الشمس، حاملة قلمها في وجه قبح العالم، راسمة بالكلمات لوحات ملونة بالرغم من سوادها، وقد نجحت في الوصول إلى مبتغاها بنزعتها الجمالية ونشوة التفاؤل في الحياة.

تجربة إنسانية ذاتية قيّمة، تستحق القراءة والغوص في سماتها وخصائصها ككاتبة وإنسانة وضحية، تطرح بكلّ جرأة قضايا عاطفية واجتماعية من منظورها النفسي الفلسفي، حاملة هموم الإنسان المقهور، ذات رؤية عميقة، أداتها اللغة وحصانها الخيال، تسافر وتجنح بدلالة اللغة الحقيقية إلى دلالات مبتكرة، مليئة بالمعاني الجديدة والإشارات والإيحاءات المدهشة.