قراءة في رواية هاتف من الأندلس لعلي الجارم

1٬117

هل يجب أن يعيش المرء تجارب الحياة ليفهم أسرارها؟ وهل عليه أن يسبر أغوار الزمن ليعيش تفاصيل حياة الماضين بحقيقتها؟ هل عليه أن يمارس الحبّ ليدرك أغواره؟ وهل يلزمه مكابدة ليالي الوله لكي يدرك عمق مشاعر الشوق والهيام؟ هل يجب أن تزور قرطبة لتعرف تفاصيل حياتها ونوع عمرانها وزخارف قصورها ومروج بساتينها؟ كلّ تلك الأسئلة ستجيب عنها بــ “لا” حين تقرأ رواية الأستاذ علي جارم والتي سمّاها: هاتف من الأندلس وكتبها بقولب روائي بديع صوّر لنا فيها الكاتب تاريخا مضى وعهدا ولّى فأجاد في التصوير وبرع في التصميم، حتّى لكأنّ القارئ يخيّل إليه أنّه يقف بين قصور قرطبة ويجلس في ندواتها ويحتسي من رحيقها ويعايش أهلا سكنوها قبل عشرة قرون.

يعيدنا الكاتب في هذه الرواية إلى سنة أربعمائة وثلاث وعشرين، في جوّ قرطبة التي عصفت بها رياح الزمان فعجزت عن محو سطورها ووقفت مشدوهة أمام جمال يستعصي على الزمان أن يهرمه وعلى الأيام أن تصرعه، نقف أمام قصة حبّ مثالية بين شاعر الأندلس العظيم “ابن زيدون” والشاعرة الأميرة “ولادة بنت المستكفي”.

كان ابن زيدون شاعرا تملّك ناصية الشعر حتّى صدحت بشعره قرطبة كلّها وطرب لها الوزير والأمير والمتبتّلة في صومعتها، فتى من بيت علم وأدب، لكنّ الفنّ تملّكه والأدب أسره فبلغ من الشعر ما يبغض عين الحسود، لكنّ طموحه كان أعلى من قرض الشعر والتغزّل بجميل ما خلق الله في قرطبة من حور. أمّا “ولادة” فأميرة أفاض الله عليها من كرمه ما أفاض فجمع لها بين الوجه الصبوح واللسان الفصيح، فكانت شاعرة يغشى مجالسها كبار شعراء قرطبة. وقصّة حبّهما هو جوهر الرواية ولبّه فبعد أن تحلّل ابن زيدون من قيود “عائشة بنت غالب” الفتاة الهجينة والتي ولدت بدم عربي إسبانيّ فأخذت من كلّ دم أقبح صفة فيه، انطلق في سماء المجد والعلا وأصبح وزيرا وخطيبا لــ “ولادة بنت المستكفي” أجمل فتاة في قرطبة وأرفعهم نسبا، كلّ ذلك بفضل “نائلة الدمشقية” التي أفاضت حبّ الأمومة على ابن زيدون بعد أن فقدت ابنها الوحيد فشقّت له من الصخور طريقا معبّدا، وأوصلته إلى مطامحه بيديها وأزالت من أمامه كلّ عقبة قد يتعثّر عليها. وبعد أن أصبح “ابن زيدون” وزيرا في الدولة وخطيبا لـ “ولادة” شعر بأن القدر أرخى في وجهه العنان، والدنيا كما يقول كاتبنا “إذا أقبلت أقبل معها كلّ شيء” فعاش سعيد البال قرير العين يصبح في وزارته ويمسي بين يديّ خطيبته.

لم يخلُ هذا الجوّ من منغصات ومكدرات، فابن عبدوس (الوزير والشاعر) يزاحمه في حبّ “ولادة” لكنّه أسكته ببيانه وأفحمه بلسانه، أمّا الزمان فلم يقدر مشاهدة “ابن زيدون” وهو يتقلّب في تلك النعم فتهجّم له مرّة أخرى ووُشي به عند ابن جهور، فوجد نفسه في سجن، بعد أن اتهم بخيانة الدولة وإخفاء “المرتضي” في بيته. بعد سنة من السجن والنكال استطاع أن يفرّ من السجن بحيلة اخترعتها حبيبته الولهانة، ففرّ من السجن، وأصبح البحث عنه شغل الدولة الشاغل، تبحثه في المدينة بحثا، وبعد مدّة ليست بالقصيرة اكتشف أمره وفضحته “عائشة” والتي صارت جاسوسة للإسبان، وكانت تعيش في قرطبة مستخفية بعد أن وسم عليها ابن جهور وسام العار ونفاها إلى “برغش” لكن لحسن حظه توافق قبض الشرطة عليه بقبض ملك الموت على روح جهور، فطلب من صاحب الشرطة بالقبض على الجاسوسة، ومثّل هو بين الوليد بن جهور، فعفا عنه وعادت إليه الحياة مرّة أخرى.

عاش “ابن زيدون” مقربا لدى الوليد وسادت بينهما المودّة والمحبّة وكانا يسمران معا عند ندوة “ولادة” لكنّ أفكارا وطموحا كبيرين كان يعصفان على “ابن زيدون” كانت فكرة إعادة مجد الأندلس تغلب عليه فكان بذلك يوجد لأعدائه منافذ يختلقون منها النمائم والدسائس حتّى اتّهمه أعداؤه بأنّه يحيك أمورا تحت جنح الظلام، فتجهّم الوليد له ولم يعد كسابق عهده به وبعد مدّة أحسّ فيها أن ابن جهور يجفيه وقد يباغته في حين غرّة. تسلّل ليلا وامتطى جواده وخرج من المدينة موليا وجهه شطر إشبيلية، ورحّبه الملك وقرّبه وأكرمه، لكنّ “ابن زيدون” لم ير في وجهه ما يدعو إليه بفتح أسرار نفسه فبلع ريقه واحتبس أنفاسه وبقي يعالج أفكاره حتّى مات المعتضد وتولّى الخلافة ابنه المعتمد، فأقنعه بفكرة توحيد الكلمة وبدء الخطة بالاستيلاء على قرطبة، فوافقه في ذلك ودخل جيش يتقدمه “ابن زيدون” و”المعتمد” وفتحوا المدينة وأودع الوليد وإخوته في السجن، ووقف “ابن زيدون” مرّة أخرى أمام “ولادة” بعد أن لعب الدهر بشبابهما وأصبح يرسم في وجهيهما التجاعيد.