أتهزمنا الذكريات ..؟!
واحد وخمسون يومًا انقضت منذ عام، صبَّت على قطاع غزة لهيبَ جحيمها كأنها جنون سماء في ليل شتاء عاصف، وعلى الرغم من أن الطائرات الحربية بأنواعها والآليات المقاتلة باختلافها قد انفضت عن أحيائنا وحَوارينا، إلا إنني ما زلت أنفض عن جسدي غبار الحرب، وأبعد عن أشيائي شظاياها ومخلفاتها التالفة والموقوتة..
قد تكون الحرب هي أصعب تجربة يمر بها الإنسان، وكلمة “الحرب” لمن لم يسبق له العيش في منطقة اشتباك دائم وحروب متلاحقة كلمة مرعبة جدًّا ربما أكثر رعبًا من الحرب نفسها، فالحرب لا تنتهي بانتهاء تساقط القذائف وتوقف زخات الرصاص من الانهمار على رؤوس الآمنين – كما يعتقد البعض – بل تبقى متجذرة في النفوس والعقول على حد سواء.
تجدها في كل نخزة ألم تلم بقلبك عندما تقع عينك على صورة لشهيد اختطفته الحرب من بين أهله وأقرانه، وتلفح وجهك بنيرانها كلما مررت على مبنى كان قائمًا كشاهد على الحياة فدمرته القذائف فصار شاهدًا على خراب الحرب ودمارها، يقول لك جهرًا: الحرب هنا لم تنتهِ بعد..
تجدها هناك أيضًا في حفل زفاف أقيم على استحياء بين أزقة المخيم المنكوب، حين تقلب عينيك بين وجوه الحاضرين تتلمس أن تصيب بها غائبًا فُقد في معمعة الحرب، تشتاق له فلا تجده، تحصي الوجوه واحدًا تلو الآخر لتصارح نفسك سرًّا: إنها الحرب تأخذ ما تشتهي دون حساب..
وقد تتناساها مرة فتظهر لك فجأة وأنت على قارعة الطريق، تجمعك بفلان الشاب صاحب الخلق الرفيع والقوام الممشوق، وقد تَركت له أوصالًا مقطَّعة وأطرافًا مبتورة، فبعد أن كان لاعب كرة قدم محترفًا صار سائق كرسي متحرك..!
لتصمت حينها.. وتظهر له ابتسامة أمل وتقدير ثم تلعن الحرب مرتين: مرة لماضيها المنصرم، ومرة لحاضرها المتجدد في كرسي صاحب الطرف المبتور..!
تتغافل عنها حين تختلس نظرة إلى أطفالك النائمين كملائكة في يوم عيد، ترجع للوراء خطوتين بهدوء حتى لا توقظهم وهم هائمون في ملكوت أحلام تظنها سعيدة، لكنها على غير ما تظن وعلى خلاف ما تعتقد، فالحرب معهم هناك في أحلامهم تكتشفها حين تفزع طفلتك ذات السبعِ سنين مُفجَعَة تركض على غير سبيل، تصرخ: الحرب رجعت الحرب رجعت..!
فتنبئك رجفتها الخائفة أن الحرب مستمرة تنفث كابوسها في كل شيء حتى في أحلام الأطفال الوردية.
وهناك أيضًا.. موجودة رغم أنفك تصطدم بها على غير إرادة منك حين تنظر لنفسك في المرآة وأنت تنظف أسنانك بفرشاة زرقاء اللون ناولتك إياها أربعينية شقراء تعمل في هيئة إغاثة عالمية، نصبت خيمتها في ساحة لجوء شعبية لجأ الناس إليها للنجاة بأرواحهم من موت يوزع بالمجان كما فرشاة الأسنان وعلبة التونة..
ترهقك ذكريات وحقائق حرب زال دُخانها لكن بارودها لم يبرح الأرض بعد، فتلقي بجسدك المرهق على فراشٍ بالٍ تعرفه مخيمات اللجوء جيدًا، تغمض عينيك، تستعد للمغادرة من عالم الشعور إلى عالم اللاشعور، تدنو رويدًا رويدًا من آخر مركب مغادر تتشبث بأطرافه، تلتفت مرة أخيرة لعَالم الشمس تلعن الحرب مرة ثالثة وتسأل: لمَ نتوسل السلامة والحرب ما انتهت بعد عن التهام أكبادنا..؟ أيعقل أن نرضى الدنية في حياتنا ما دامت الحرب باقية ولم تغادرنا..؟ أتهزمنا الذكريات وقد عجزت عن هزيمتنا ثلاث حروب صهيونية..؟
تبحر بعيدًا في تساؤلات جدلية، تختفي ظلالك في مجاهل اللاشعور لتترك له أن ينفس شيئًا من غضب مخبوء متراكم يزأر في وجه الحرب الملعونة أن ارحلي بغير رجعة أو تجرئي من غير خشية فإننا رجال عزمٍ لا نعرف غير لغة الصمود والفداء.