ابن المقفع: المثقف العلماني الذي اغتال العباسيون عبقريته

1٬389

في العنوان الذي اقترحناه لموضوع مقالنا هذا «ابن المقفع: «المثقف العلماني» الذي اغتال العباسيون عبقريته»، تعمدنا أن نضع كلمتي «المثقف» و«العلماني» بين معقوفين حتى لا يحمِّلهما القارئ ما لا يحتملان، فماذا نقصد باللفظتين: «مثقف» و«علماني»؟

تعد لفظة «مثقف» لفظة حديثة نسبيًّا في اللغة العربية، بل في كل اللغات، لقد ظهر مصطلح «مثقف» أول ما ظهر في فرنسا، وبالتحديد مع قضية ألفريد دريفوس، وهو ضابط فرنسي من أصول يهودية اعتقلته السلطات الفرنسية سنة 1894م بعد أن ألصقت به تهمة الخيانة العظمى؛ حيث اتهمته بالتجسس لصالح ألمانيا، أثارت القضية حفيظة الرأي العام الفرنسي ودخل المعركة مفكرون وروائيون وكتَّاب وفنانون في مختلف المجالات…إلخ. فكان من المبادرات التي قام بها هؤلاء تعبيرًا عن احتجاجهم على قرار الحكومة، إصدارهم لوثيقة موقعة من طرفهم بعنوان «بيان المثقفين-Manifeste des intellectuels» كانت تلك هي المرة الأولى التي ظهر فيها مصطلح «intellectuel» والذي تُرجم فيما بعد لمصطلح «مثقف» في القاموس العربي. كان من نتائج هذا البيان أنه مارس ضغوطاً على الحكومة الفرنسية اضطرتها إلى تخفيف الحكم على دريفوس، ثم إلى إطلاق سراحه فيما بعد.

من هنا أصبح مفهوم المثقف يرتبط مباشرة بالدَّور الذي يقوم به المفكر داخل مجتمعه كمُشرِّع وصاحب مشروع ومدافع عن مشروعه. ولذلك، يمكننا القول إن المفكر المعني بموضوعنا يستحق فعلًا لقب «المثقف»، وهذا ما سيتضح خلال عرضنا للمقال. هذا فيما يتعلق بمفهوم «المثقف» أما عن مصطلح «علماني» فإننا نقصد به ببساطة -اليوم- كل من يرفض تراثنا العربي القومي، ويقفز بالتالي مباشرة نحو الفكر الغربي الأوروبي ليحتمي به، يقفز نحو فكر الآخر، وهذا الرفض الشامل لثقافة العرب نجده في جل كتب ابن المقفع حيث يحتمي الرجل بالتراث الفارسي والهندي واليوناني (=تراث الآخر بالنسبة للعرب)، وهو لا يُخفي عنا أبدًا كرهه للعرب وامتعاضه لتراثهم واستخفافه بثقافتهم.

بعد هذه الإيضاحات التي نراها مهمة، ندخل في صلب الموضوع، لنسلط الضوء على محنة ابن المقفع، وعبقريته التي اغتالها النظام العباسي في عز شبابها؛ إذ لم يكن أديبنا قد تجاوز عقده الثالث حينما اغتيل على يد العباسيين، وهو في أوج عطائه الأدبي والفكري. يمكن القول إن تاريخنا العربي والإسلامي شهد في الماضي -وما يزال- عدة محن ونكبات تعرض لها مثقفون لهم وزنهم في البناء الفكري لحضارتنا، فمنهم من قُطعت أطرافه قطعًا، كما حدث مثلًا مع غيلان الدمشقي، ومنهم من قُتل كما حدث مع المتنبي، أو أهين أمام الملأ كما حدث مع أبي العلاء المعري، أو صلب وسط المدينة كما حدث مع الحلاّج، أو استجوب من طرف الخليفة كما حدث مع ابن حنبل، أو طُرد من الجامع وحرم من تأدية شعائره الدينية كما حدث مع ابن رشد، أو سجن كما حدث مع ابن تيمية، أو نفي خارج بلده كما حدث لابن خلدون… وهلم جرا.

وفي الأغلب الأعم، ما كانت هذه المحن لتحدث لدوافع سياسية، يتم تسويغ غطاءٍ لها من طرف السلطان وخدَّامه، يمنح السلطة مبررا للمحنة التي يُراد إلحاقها بالمثقف، فيتفنن في إبداع التسويغات، إذ كلما كانت المسوغات متعددة اكتسب موقف الحاكم مصداقية لقراره أكثر، فإذا لم تقبل العامة هذا المسوغ قبلت ذاك. ومحنة ابن المقفع لم تَشُذ عن هذه القاعدة ولا هي خرجت عمّا يُعد عاديًّا ومألوفًا في ثقافتنا العربية.

لقد تعرض ابن المقفع لنكبته تلك التي تعرض لها بسبب نقده لسياسة العباسيين، لكن النكبة تحتاج دائما -كما قلنا- إلى مسوغ يمنحها مبررا، فكانت من بين هذه التبريرات الكفر والزندقة تارة، وخلافه مع والي البصرة تارة، ولسانه السليط تارة أخرى، كما سنرى.

يقول الدكتور وائل حافظ خلف في مقدمته التي صدَّر بها كتاب ابن المقفع «الأدب الصغير» مايلي: «كان عبد الله بن المقفع مجوسيًا من أهل فارس، وكان يسمى روزبه بن داذويه، وأسلم على يد عيسى بن علي عم السفاح والمنصور، وأطلقوا على أبيه: المقفع -بفتح الفاء-؛ لأن الحجاج بن يوسف الثقفي كان قد استعمله على الخراج، فخان، فعاقبه حتى تقفعت يداه. وقيل: بل هو المقفع -بكسر الفاء-؛ نُسب إلى بيع القفاع وهي من الجريد كالمقاطف بلا آذان. وقد مات مقتولًا، واختلفوا في سبب مقتله والطريقة التي قُتل بها وفي سنة وفاته أيضًا.» يحيلنا هذا النص إلى أن ابن المقفع كان مجوسيًّا ثم أسلم بعد ذلك، كما ينبهنا إلى أصله الفارسي أي أنه كان من الموالي، وهذا ما يفسر امتعاضه ونفوره من ثقافة العرب.

لكن، ما يهمنا هنا ليس حياة ابن المقفع ولا أصله وفصله، إن ما يهمنا هو فقط أن ننظر في محنته السياسية، والتي ما زالت في خطوطها العريضة حاضرة، نعم، إن محنة ابن المقفع ما تزال آثارها قائمة في الثقافة العربية إلى يومنا هذا. إن «الحاكم» العربي عندما يريد أن يوقع بأحد من معارضيه -في الماضي والحاضر- يلتجئ دائماً إلى تسويغ أدلجة/قناع له*، ونحن نقصد بالأدلجة هنا، تهمة واهية يستطيع من خلالها الحاكم إخفاء التهمة الحقيقة، فعندما أراد مثلاً الخليفة المنصور الموحدي الإيقاع بابن رشد راح يسوغ له تهم الكفر والزندقة، وأنه قال في أحد كتبه التي خصصها لشرح فلسفة أرسطو «أن الزهرة أحد الآلهة»… وما إلى ذلك من التهم الواهية التي أشاعها بين العامة، استطاع بواسطتها إخفاء التهمة الحقيقية، والتي لم تكن سوى كتاب ابن رشد «الضروري في السياسة» هذا الكتاب الذي انتقد فيه فيلسوف قرطبة سياسة الأمير الموحدي ووصفه بـ«وحداني التسلط» وهي عبارة توازي ما نعبر عنه نحن اليوم في لغتنا المعاصرة بـ«المستبد والديكتاتور».

وأخيرًا، نجحت أدلجة الخليفة في إخفاء حقيقة نكبة ابن رشد. ذلك ما حدث مع فيلسوفنا ابن رشد، وذلك ما حدث أيضًا مع أديبنا ابن المقفع، فقد قتله العباسيون وذلك في خروج عبد الله بن علي، على ابن أخيه أبي جعفر المنصور، بالرغم من كون ابن المقفع لم يكن مع الثوار وإنما تورط في ذلك لمجرد أنه كان كاتباً عند أعمام المنصور، وأخلص لهم حينما أحكم صياغة “كتاب الأمان” ثم ألصق به العباسيون -لتبرير قتله- عدة تهم أشهرها خلافه الشديد مع سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب، والي البصرة في عهد الخليفة المنصور: يروي صاحب كتاب «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» جملة من هذا الخلاف يقول ابن الجوزي: قال سفيان يومًا: «ما ندمتُ على سكوتٍ قط». فقال له ابن المقفع: «الخرس زينٌ لِأمثالك فكيف تندم عليه!». وورد عن سفيان بن معاوية أنه قال في إحدى المرات: «والله لأقطعنه إربًا إربًا وعينه تنظر». غضب سُفيان من ابن المُقفع يومًا وافترى عليه أمرًا ما وعندما سمِع عبد الله بن المقفع افتراء سُفيان عليه قذف أُمّه وسبها وقال له: «يا ابْن المُغتلِمة، والله مَا اكتفت أمك برجال العراق حَتَّى نكحها رجال أَهْل الشام. إضافة إلى تُهَم الكفر والزندقة التي أُلصقت به أيضاً، والتي يحدثنا عنها ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية».

هذا وقد اشتهر ابن المقفع بنقده الشديد للسياسة العباسية، فكان ذلك سببًا رئيسيًّا في نكبته، ولكن الغطاء/ القناع كالعادة هو الزندقة والكفر وإساءة الكلام وسلاطة اللسان. كيف؟ وهو الأديب الذي يقول عنه أحد الباحثين المعاصرين أحمد أمين: «أما خلقه فنُبل وكرم، وتعهد لذوي الحاجات يواسيهم، وتقدير دقيق للصداقة، ومراقبة شديدة لنفسه يحملها على الأجدر والأنبل، ورغبة شديدة في إصلاح الراعي والرعية -خُلقيًّا واجتماعيًّا- إلى ظرف الخاصة، والتمسك بآداب اللياقة، ومراعاة الدِّقة فيما يتطلبه الذوق».

أجمع المؤرخون على أن صاحب «الأدب الكبير» و«الأدب الصغير» مات مقتولًا، ولكنهم اختلفوا في كيفية قتله، فمن ذلك ما نُقل أن ابن المقفّع كتب أمانًا للخليفة المنصور وقد أساء اختيار الألفاظ والتعبير، فاشتد ذلك على المنصور وأمر سفيان المهلبي بقتله، وكان سفيان غاضبًا من ابن المقفّع لأنه كان يستخفّ به فقتله سرًّا في داره.

وقيل إن المنصور أمر بتنور وقطع أطرافه عضوًا عضوًا وألقاها في التنور وهو ينظر إليها. وقيل إنه أدخل ابن المقفع إلى الحمام وأغلق عليه الباب فاختنق ومات. ومهما يكن من أمر، فإن الثابت هو أن ابن المقفع، هذا الأديب الذي يصفه الشاعر العباسي أبو العيناء بأن «كلامه صريح، ولسانه فصيح، وطبعه صحيح، كأن بيانه لؤلؤ منثور.»، اغتيل لدوافع سياسية، ونقده الشديد للنظام السياسي العباسي، والذي نجد صداه في مؤلفاته المختلفة.

جيء ذات مرة برجل أغلظ الكلام في معاوية بن أبي سفيان فأكثر، فقيل له: أتحلم عن هذا؟ فقال: «إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين مُلكنا.» إن هذا النوع من «الليبرالية» الذي ميز فترة حكم معاوية، له حدود، وحدوده «السياسة» أن الخليفة هنا قد يغفر للرجل المساس بكل شيء، حتى بشخصه، لكن أن يمس ملكه، أن يمس سياسته، فهذا ما لن يغفره له أبدًا.

إن كلام معاوية هذا -وهو المشهور بشعرته- يعني أنه يسمح للناس بالكلام في كل شيء إلا السياسة، إن السلطة السياسية هنا في الثقافة العربية «مقدسة» فما إن يحاول المرء أن يمسها حتى يصيح صاحبها صَيْحة الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم:

ونحن التّاركون لما سخطنا ** ونحن الآخذون لما رضينا
ألاَ لـيـجـهـلـنَّ أحـدٌ عـلـيـنـا ** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ذاك ما حدث بالأمس، وما أشبه اليوم بالأمس؟ فهل نحتاج تأكيد ذلك بأمثلة من الحاضر؟ وهل يحتاج النهار إلى دليل؟ وبعد، فإننا هنا نأبى أن نختم مقالنا هذا إلا بقصة لأديبنا الكبير تعبِّر أصدق تعبير عن علاقة المثقف العربي بالسلطة والتي عنونها ابن المقفع بـ«القرود والطائر والرجل» القرود هنا في إشارة إلى رجال السلطة، والطائر في إشارة إلى المثقف، أما الرجل فلربما إشارة منه إلى العقل الذي ينبهنا ويرشدنا لما فيه مصلحتنا: زعموا أن جماعة من القردة كانوا ساكنين في جبل. فالتمسوا في ليلة باردة ذات رياح وأمطار نارًا فلم يجدوا. فرأوا يراعة تطير كأنها شرارة نار، فظنوها نارًا وجمعوا حطبًا كثيرًا، فألقوه عليها، وجعلوا ينفخون بأفواههم ويتروَّحون بأيديهم، طمعًا في أن يوقدوا نارًا يصطلون بها من البرد. وكان قريبًا منهم طائر على شجرة ينظرون إليه وينظر إليهم، وقد رأى ما صنعوا فجعل يناديهم ويقول: لا تتعبوا أنفسكم فإن الذي رأيتموه ليس بنار. فلما طال ذلك عليه عزم على القرب منهم، لينهاهم عما هم فيه، فمر به رجل فعرف ما عزم عليه فقال له: لا تلتمس تقويم ما لا يستقيم، فإن الحجر الصلب الذي لا ينقطع لا تجرّب عليه السيوف، والعود الذي لا ينحني لا تعمل منه القوس، فلا تتعب. فأبى الطائر أن يطيعه وتقدم إلى القردة ليعرفهم أن اليراعة ليست بنار. فتناوله أحد القردة، فضرب به الأرض فمات!

*(انظر عبد الله العروي: مفهوم الأيديولوجيا ص 31 وما بعدها)