تاريخنا الذي نجهله

0 3٬949

ككل يوم جمعة، قصدت مسجد الشيخ سيف بحي الرياض، حيث تشدني خطب د. عشاق حفظه الله إليها لغة وتذكيرا وأفكارا… في ذلك اليوم حدثنا عن قصة سبأ متدبرا مقطع ما ذُكر من قصتهم في السورة التي تحمل نفس الاسم، وكيف تحولوا من أناس كانوا في نعمة من الله إلى أناس يعيشون في ضنك وجنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ومُزقوا كل ممزق…

إن مما يجعل من القرآن كتابا صالحا لكل مكان وزمان هو اشتماله على الكليات والقواعد أو ما يصطلح عليها السنن الكونية التي تحكم تاريخ الأمم صعودا ونزولا. وقد تحدث الكثير من العلماء في هذه القواعد التي تجعلنا نستوعب ماضينا جيدا فتساعدنا على فهم حاضرنا ومستقبلنا… إلا أن استنباط هذه القواعد لا تكون ذات معنى حين تُطمس الحقائق التاريخية، وتُغيب مراحل كاملة من التاريخ خدمة لأجندة المنتصر أو الحاكم… ولذلك كان التاريخ دوما سيفا ذا حدين، فهو في بعده الإيجابي أداة لتربية الأمم بالأحداث والسلوك واقتباس العبر والعظات من الأقوام السابقة، وفي شقه السلبي وسيلة لتوجيه الشعوب وخدمة الأيديولوجيات والمشاريع العالمية.

morabten-655x330

دعونا إذن نطرح بعض الأسئلة حول المغرب: كم نعرف فعليا من حقائق تاريخنا؟ أو بمعنى آخر، كم يخفى علينا من تاريخ مغربنا؟ متى بدأ مفهوم الدولة لأول مرة في المغرب؟ ألم تكن دول قبل مجيء الإسلام؟ ماذا وقع بين فترة الفتح الإسلامي (من عقبة إلى موسى بن نصير 50-92ه) إلى ظهور الأدارسة 172ه؟ ماذا وقع بين حكم الأدارسة وحكم المرابطين في تاريخ مطموس دام قرنا ونصف؟ لماذا عندما تُذكر مراكش لا يُشار بالبنان إلى مؤسسها العظيم يوسف بن تاشفين؟ لماذا لم يقدم المغرب السعدي يد العون للعثمانيين من أجل استرداد الأندلس علما أن الأتراك كانوا عونا مباشرا في انتصار وادي المخازن العظيم؟ لماذا احتل أحمد السعدي دولا مسلمة مجاورة؟ ماذا وقع بعد موت المولى إسماعيل؟ كيف احتُل المغرب؟ ثم ماذا وقع فعلا في التاريخ المعاصر للمغرب الذي لا زال يُدوَّن لحد الآن بدءا من حرب الحماية مرورا بحرب التحرير وجلاء الفرنسيس والإسبان ثم مخاض الاستقلال وسنوات الرصاص وصولا إلى الأحداث الراهنة؟ هذه أمثلة من أسئلة عابرة من وحي تاريخ المغرب الطويل، تاريخ غني ومعقد ومليء بالأسرار يُراد طمس الكثير منه، وهذا مفهوم، ويُراد منه قولبة الماضي لخدمة الحاضر كسيرورة طبيعية لما مضى، ويصبح مسلما به لأنه كان هكذا منذ القدم !!

لنعد إلى يوسف بن تاشفين، هذا البطل الذي لا يُراد معرفته، بل لا يكاد أحد يعرف قبره المدنس بالقرب من ساحة جامع الفناء… وهكذا تعرف مراكش بكل مآثرها: الكتبية ومسجدها، سبعة رجال، قبور السعدين، قصر البديع المهدم، وحتى حدائق ماجوريل الموروثة من عهد الحماية، ولا يذكر مؤسسها العظيم الذي حكم دولة تمتد من سرقسطة في إسبانيا شمالا إلى نهر السينغال جنوبا ومن تونس شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا. دولة المرابطين التي كان لها الفضل أن يصل الإسلام إلى نيجريا جنوبا، والتي أقامت في عهد هذا الملك العادل المتواضع، دولة يملؤها العدل، بل كانت من الدول التي يُقام لها ويقعد، واستطاعت أن تعيد وحدة المغرب بعد أفول الأدارسة وهجوم الفاطميين الشيعة على المغرب من جهة، وأمويي الأندلس من جهة أخرى، ثم تقاسم المغرب بين إمارات عديدة كان أخطرها دويلة برغواطة التي أقامت حكما جديدا مبنيا على دين محرف هدد أسس الدين لفترة طويلة. هذه الأسرة الأمازيغية التي ينبغي أن نفتخر أنها حكمت المغرب في فترة حساسة، وجعلته قوة دولية ومركزا لحماية المستضعفين، وأعادت له أمنه الروحي الذي ضاع لفترة من الزمن بعد تمكن الشيعة والخوارج والدين البرغواطي من رقاب الناس لقرن ونصف من الزمن العصيب. وحسبنا في هذا كله، انتصار يوسف بن تاشفين في معركة الزلاقة وعمره حينها 79 سنة، قائدا جيشه بنفسه في رحلة من 1200 كم، وهي معركة يتشاءم منها الإسبان لحد الآن ويذكرونها بأسى ويجاهدون في طمس موقعها القريب من مدينة باداخوس.

خلاصة الأمر، نحن في حاجة ملحة للتصالح مع تاريخنا وبذل الجهد في معرفته بدءا، معرفة عميقة بأحداثها الصحيحة التي نريدها، وليس ما يُراد فقط أن نعرف منها، كأجزاء متناثرة هنا وهناك ليس بينها أي رابط وروح. وفي ذلك لا تعوز المصادر الكثيرة التي تناولت التاريخ العام للمغرب، أو تلك التي تناولت حقبا معينة. هذه المعرفة التي ستجعلنا نفهم جذور ما نعيش فيه حالا، وتعيننا على فهم قضايا تستعصي علينا لحد الآن كالهوية الدينية والوحدة الترابية والأمازيغية، وتعطينا فرصا للتأمل والاستشراف لهذه الأمة العظيمة التي نفتخر بشرف الانتماء إليها.