لم يكن عام 2023 عادياً في غزة، بل كان مدة زمنية من النضال المستمر والألم لشعب غزة الصامد تحت حصار ظالم منذ أكثر من 70 عاماً. سيظل عام 2023 شاهداً على مدى قبح العالم وقساوته. فوتيرة الموت فيه لا تهدأ، ومعدلات إحصاء الجثث في ارتفاع دائم، بينما يغط باقي العالم في نومه.
لغزة لم يكن هذا مجرد عام؛ بل صار فصلاً محفوراً في سجلات التاريخ بدماء الشهداء ومثقال الأكفان الذي غطى حياة الأطفال والنساء والرجال، وحول أرض غزة إلى مقبرة جماعية بيد الاحتلال.
بينما يترقب العالم بفارغ الصبر قدوم عام 2024، وبينما تنتظر بعض المدن سقوط الثلوج، تُسقط طائرات الاحتلال آلاف الأطنان من المتفجرات على غزة. يستعد الجميع للاحتفال بالعام الجديد مع أحبائهم، محاطين بأصوات الألعاب النارية المبهجة، في غزة لا يملك الإنسان فرصة لكي يدفن عائلته، فهو لا يستطيع أن يجد بقايا أجسادهم، وإن وجدها فلن يسعفه الوقت ليدفنهم ويرثيهم.
أتعلمون، تبدو تطلعاتنا واحتياجتنا تافهة أمام هذه البشاعة التي يعيشها أهل غزة اليوم. فبينما نكتب أمانينا للعام الجديد، تظل غزة أسيرة في براثن احتلال متوحش لا يرحم.
يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش: “وأنتَ تخوضُ حروبكَ، فكِّر بغيركَ، لا تنسَ مَنْ يطلبون السلام.. وأنتَ تسدد فاتورةَ الماء، فكِّر بغيركَ، مَنْ يرضَعُون الغمام.. وأنتَ تعودُ إلى البيت، بيتكَ، فكِّر بغيركَ، لا تنسَ شعبَ الخيامْ.. وأنت تنام وتُحصي الكواكبَ، فكِّر بغيركَ، ثمّةَ مَنْ لم يجد حيّزاً للمنام”.
خذوا لحظة وسط احتفالات بالعام الجديد، لتتذكروا غزة. تأملوا قليلاً في حياتهم، حيث يعيشون على حافة الزمن، خوف دائم كل دقيقة من قذيفة المحتل التي لن تمهلهم حتى ثواني أن يودّعوا من بجانبهم. يدهشني كيف سيحتفل العالم بعام جديد، بينما على نفس الأرض يُباد بشر بأبشع الطرق لكونهم فقط “فلسطينيين”.
أشعر أن للعالم وجهين، وجه ننام فيه نحن الآمنين ونستيقظ بسلام، والآخر حيث تقع في قاعة غزة التي يُحرم أهلها من مثل هذه الامتيازات البسيطة. وبينما نأكل ونضحك مع أحبائنا، تستيقظ غزة كل صباح تودع شهداءها. تمر الليالي في غزة دون نوم أحد، فمن لم تقتله الصواريخ تطارده أصوات الطائرات الحربية، وتعصف به إضاءة الأرض من القصف والنيران.
في وسط غزة، حيث يمتد كفاح السكان إلى أبعد مدى يتجاوز محدودية أجسادهم، يفتقرون إلى حتى الضروريات الأساسية مثل الطعام ومياه الشرب، نجد أرواحاً تقاوم وتتحدى كل أسباب الفناء من أجل البقاء وسط هذا الدمار والقهر.
فرغم هذا الوضع المأساوي، تظهر قصص تروي لنا عن أحلام ما زالت تنبت وأخرى تحطمت وانكسرت للأبد، كالشاب محمود الدحدوح، الذي كان يحلم بالسير على خطى والده وائل الدحدوح كصحفي بطل، ولكن العالم لم يمهله الوقت. بينما كان عوني الدوس، ذو الابتسامة الجميلة والوجه البريء، كان يحلم بالحصول على 100 ألف مشترك على قناته على اليوتيوب، وهو الحلم الذي تحقق، لكن بعد استشهاده.
هزيل كل ما يمكن كتابته عن تكلفة تلك الوحشية والهمجية من الاحتلال الذي يسحق البشر وأحلامهم أمام مرأى ومسمع العالم. ربما يكون هذا العام قد انتهى، لكن الحرب على غزة لم تنتهِ، فبينما يحتفل العالم، تقف غزة صامدة وهي مثقلة بالدمار والآلام، تقف صامدة بكل شرف، مقاومة من أجل البقاء.