زمن التحولات السريعة، بين عنف الراهن، والتأمل الممتد

دخل العالم منذ بداية العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، على أقل تقدير، مرحلة جديدة من عملية “صناعة التاريخ”. إذ أضحت العوامل المتحكمة في هذه الأخيرة غير متوقعة، بل حتى أضحى من يعتبر أن التحولات الاستراتيجية التي يعرفها العالم أضحت تتسم ب “العشوائية”، فصار المتداول على ألسنة المثقفين وهم بصدد تقديم قراءات حول مستقبل التحولات الكبرى في العالم ومواقعها هو: “اللايقين”.

مفهوم اللايقين الذي شاع بين الباحثين للتعبير عن عجز مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية عن التنبؤ بحقيقة التحولات المتوقعة الحدود بناء على المتغيرات الراهنة، تطور ليعبر عن عجز هذه العلوم والباحثين فيها على فهم وإدراك حقيقة هذه المتغيرات الراهنة التي كانت تعد إلى زمن قريب “حمار المحللين” التي يركبها كل مبتدئ في حقل الدراسات الاستراتيجية.

“اللايقين” كحالة نفسية عامة تعتري كل المهتمين بصناعة التحولات في العالم، يمكن قراءتها على مستويين اثنين: فمن جهة المهتمين بالإبستمولوجيا ومناهج العلوم، تفسر انتصارا لطرح القائلين بمحدودية العلوم الاجتماعية، المنافحين عن فكرة أن هذه “الدراسات الإستراتيجية” و”علم المستقبليات” لا تعد إلا تخمينات أو شعوذة. وأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال بناء نتائج علمية ما دامت مواضيع الدراسة لا تنفك عن ذوات الدارسين وتشتبك معهم في رهاناتهم السياسية والفكرية.. وهو قول له حجيته، ولكنه متحامل على حقل من الدراسات العلمية التي لم تدع يوما أنها دراسات تنجيمية بقدر ما أنها قراءة استنباطية لمتغيرات مختلفة واستقراء لنتائجها المحتملة.

ومن جهة ثانية هي تعبير عن حالة استثناء دخلها العالم منذ ثورات الربيع العربي، حيث خرجت من منطق تبعية النتائج المباشرة للأسباب، إلى تشابك معقد بينها، بالإضافة إلى تحررها من أي خيط زمني ناظم، حيث يغيب الرابط المنطقي بين مجموعة من الوقائع والأحداث الهامشية، إن شئنا القول، ونتائجها الضخمة المترتبة عنها. (استشهاد البوعزيزي بتونس، وعيد الشرطة بمصر نموذجا).

مقالات مرتبطة

يعد التسارع الزمني أحد السمات المميزة كذلك للتحولات في زمننا الراهن، حيث اتسم العقد الأخير على وجه الخصوص بكثافة في الأحداث، ندر أن شهد العالم مثلها. حيث لم تعد أي مصداقية للمخططات البعيدة المدى، ما دام الواقع لا يقر على حال.
تسارع زمني دخل بنا ما يصطلح عليه ب “زمن سقوط الأيديولوجيات الكبرى”، وهو زمن ما بعد “نهاية التاريخ” عند فوكو ياما الذي بشر بهيمنة الليبرالية كإيديولوجية وحيدة على مستقبل البشر وتاريخ البشرية، وهو أقرب لمفهوم “السيولة” عند باومان الذي يستعمله للتعبير عن ضياع المعنى وتسربه حتى يفقد سماته الأساسية المميزة له. وبالتالي فإن زمن سقوط الأيديولوجيات الكبرى هو زمن سقوط التفاسير الأحادية للعالم، حيث لم تعد باستطاعة فلسفات التاريخ سواء المادية التاريخية ولا المثالية الألمانية.. تقديم قراءات مفسرة لتطور التاريخ، أو مستوعبة له على الأقل.

فوضى الما-بعديات
منذ الربيع العربي، وبعده زمن الثورة المضاد، ثم كورونا، إلى طوفان الأقصى… أصبح كثير من المهتمين بالعلوم الاجتماعية والإنسانية نفقا هو أقرب إلى الشعوذة، تحكمه عبارات منسوجة سلفا تقدم إجابة سهلة لكل سؤال: “ما بعد X ليس كما قبلها”، وهي عدوى قد يردها البعض إلى دراسات “ما بعد الحداثة” التي سادت في أوروبا والولايات المتحدة بداية القرن.
سميتها بالفوضى لكونها تجلي فاضح للرغبة في التجاوز، وخضوع لعنف اللحظة الراهنة، والبحث عن الخروج من ضيق اللحظة إلى أفق أرحب، ولو من باب التمني. والشواهد كثيرة كيف كان كل مثقف أو باحث يسقط “بشاراته”/”آماله” على زمن ما بعد كورونا حتى انجلت الأزمة على ما هو أعنف منها، واستمرت البشارات.

إن الحاجة في مثل هذا النسق الزمني المتسارع ليست إلى بشارات متسرعة، تصيب أو تخطأ، بقدر ما أن الحاجة إلى تأمل ممتد لا يخضع لضغوط اللحظة، ولا يستسلم لـ “نشوة التحليل” عند ورود أول معلومة، مع إغفال السياق العام وباقي العناصر المكملة للمعلومة. هذه الدعوة ليست دعوة للقعود والتفرج ببلادة على مجريات التاريخ وهي تزحف في استسلام مذهول، ولكن هي دعوة للانفتاح على مداخل جديدة للبحث في مسارات “صناعة التاريخ”.

ختاما، إن هذا التأمل في مناهج وأدوات الكتابة التاريخية والاستراتيجية كانت على ضوء الهبة التي دشنتها المقاومة الفلسطينية في طوفان الأقصى، هذا الحدث الذي خلخل مجموعة من الموازنات التي أريد لها أن تتسم بطابع الحتمية. لكن هذه الهبة البسيطة في أسبابها كانت عظيمة في نتائجها والتحولات المترتبة عنها. ومنه نحاول أن نحذو بالحذو ونؤسس لتحولات عظيمة بخطوات بسيطة، في العلم والفكر والسياسة.