عند الحديث عن أديب مثل الرافعي، فلا شك أننا أمام أديب مُـبرَّز أوتي صناعة محكمة في الأسلوب، وجمالا في التعبير، وذهب مذهبا خاصا به في الكتابة والأدب. وعلاوة على أنه أديب بحق؛ فهو رجل صحيح المعتقد، صريح النقد، سديد الرأي، وجيه العقل، له نزعة قوية يذود بها عن الإسلام وحوزته، ويتعرض لكل من يمس لغة القرآن بنقده القاصد، وحكمته البالغة، وحججه الدامغة التي تشرّبها من دراسته الحصيفة، و درايتة المتينة بالقرآن وعلومه وبكل ما يتصل به.
ولعل هذه الأمور التي اتّسم بها الرافعي ترجع بالضرورة إلى خلفيته الدينية التي تشبث بها وحافظ عليها، وهو ما أكده شوقي ضيف واصفا الرافعي بأنه قد “ظل مؤمنًا بالميراث العربي في لغته وآدابه، وأن نهضة العرب لا تقوم إلا على أساس وطيد من الدين وعربيته الفصحى السليمة”. (الأدب العربي المعاصر في مصر/244). وهي أمور تشبث بها أديبنا هذا ونافح عنها في كتاباته ومقالاته التي تشهد له بذلك، وهو ما حملني على أن كتب صفحات عن هذا الأديب الأريب الفذ الفريد الذي عزّ نظيره في يومنا هذا، رجل لا كأي رجل، رجل هُـمام عرف دينه فامتثل لأوامره، وعلم لغته فحفظها وحافظ عليها بكتبه وآدابه، وكتب في الحب فأجاد فيه وبرع وأقنع وأمتع. كل هذه النعوت -وغيرها- تجمّل بها أستاذنا الرافعي فجعلت منه أديبا بحق لا يشق له غبار.
الرافعي كاتبا بيانيا
والناظر في كتابه “وحي القلم” سيجد الرافعي الأديب البياني ماثلا بين صفحات بمقالاته البيانية، وتتبدى له ذائقته الأدبية التي قلما يجود الزمان بمثلها؛ إذ كان أول ما بدأ به في كتابه هذا مقالة عنونها بـ “البيان”؛ مُبيّنا فيها شروط ومقومات الصناعة الفنية للمقالة الأدبية، ذاكرا الفرق بين الأسلوب البياني والأسلوب العادي، مؤكدا ضرورة الكتابة والإبداع البياني، مبرزا أهمية الاعتناء بالأدب باعتباره نتاج كل أديب أحكم الصنعة وامتلك ناصيتها حتى صار الأدب سجيّة له، معتبرا أنه “إن لم يكن الكاتب البياني فلا تنتظر الأدب”. (وحي القلم/ص: 15)، مؤكدا ضرورة التمسك بزمام الكتابة والاعتناء بها والدقة في تصويرها وهلم جرا مما يجب على الكاتب البياني أن يجيده. واستهلاله بمقالة البيان لم يكن اعتباطا، بل هو إشارة منه على أن الكتابة البيانية لها أسس وركائز تقوم عليها، فلا يكتب الكاتب ليسمى كاتبا فحسب، وإنما ليصور المعاني تصويرا فنيا ويضعها في قوالب لغوية يسهل فهمها وتروق للقارئ.
وكتب الرافعي أشهر من أن تُذكر، تلك الكتب التي عُنيت بفلسفتي الحب و الجمال، فنجد كتاب “رسائل الأحزان” وكذا “أوراق الورد” ثم “السحاب الأحمر” بالإضافة إلى “حديث القمر”؛ كلها كتب حافلة بحسّه المرهف وإيحائه العذب الرقيق. وهذا يدل على مدى قوة إحساسه وتصوريه المعانيَ تصويرا فلسفيا يخرج بنا أحيانا عما هو مألوف ومعروف لدى الأدباء الآخرين؛ فمن ثَـمَّ سمي بالأديب الفيلسوف لعمقه ودقتّه في بسط وعرض أدبِـيّته الخيالية التي نلمحها في أسلوبه المتماسك المتراص الذي أخذ طابعا جماليا ضاربا في الدقة والتصوير.
وهي ملامح ظاهرة جليّة نلْحظها في أسلوبه الذي قد أخذ مسحة من كبرياء وعزة وإباء، مما يدل على أن الرافعي كان قوي الشخصية، عظيم الجانب، فخما شهما أوتي معاني العظماء بحذافيرها، وهذه أوصاف تظهر لنا في مواقفه الأدبية والنقدية على حد سواء. ولربما عابوا عليه أسلوبه، ولكن الأمر ليس كذلك؛ بل عجزوا عن فهم تعابيره التي لا تُفهم من أول وهلة؛ ذلك أن الفترة التي كان يكتب فيها الرافعي قد غلبت فيها لغة الصحافة بمزالقها وخروجها عن صميم الفصحى. مما جعل هذه الأخيرة تُــهدّد بشكل أو بآخر، فكان أسلوبه القوي ردا قاصدا ليُرجِع للفصحى مكانتها وريادتها.
وأكبر الظن أن ما قلته في حق الرافعي لم يكن كافيا وافيا بالغرض، وإنما هي وقفات -كما في العنوان- إشارات خفيفة أدليت بها بخصوص هذا الموضوع علّها تؤتي أكلها بعد الاطلاع عليها، أو يعود نفعها على النشء وتدفعهم لقراءة ما تركه الرافعي من إرث أدبي وتراث ثقافي جعلنا نفخر به ونرجع إليه ساعات وساعات.
على أني سأعمل في مقالات لاحقة –إن شاء الله- بمواصلة الحديث عن الرافعي وبعض ما اشتهر من أمور وقضايا، محاولا طرق قضية لها ارتباط بالرافعي في شيء من الاختصار، متجنبا الحشو والزائد الذي لا طائل من ورائه، مراعيا ما يميز الرافعي وما اختص به عن غيره، عارضا نماذج وأمثلة من كتاباته التي توضح ذلك، موضحا أثر الرافعي على الأمة الإسلامية والعربية، متجنبا الحديث عن مواقفه النقدية والمعارك التي خاضها مع طه حسن والعقاد وغيرهما لأسباب..، مبرزا بعض ملامحه الشخصية والذاتية التي نستشفّها من خلال تتبع أعماله و بعض ما أنتتجتْه قريحة هذه الأديب.